الاعتدال أولى: تنبيه الغلاة المنتسبين إلى الدعوة السلفية

إن الدعوة السلفية في جوهرها دعوة مباركة قائمة على التمسك بالكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، وهي من أعمدة الإصلاح في الأمة، ولا ينكر فضلها إلا جاحد. ومن هذا المنطلق، أؤكد أن هذا المقال لا يستهدف أصل الدعوة ولا أصحابها المعتدلين الملتزمين بالمنهج على الوجه الصحيح، بل يوجّه النقد إلى الممارسات الخاطئة والتعصبات المذمومة الصادرة عن الغلاة المنتسبين إليها الذين تجاوزوا حدود الاعتدال.

وهناك محاذير ومظاهر سلوكية خاطئة ظهرت لدى غالاة المنتسبين للمنهج السلفي، الذين حملوا الاسم دون التزام حقيقي بسلوكه وأخلاقه، ومن أبرز هذه المحاذير:

1-  جعل الانتساب إلى اسم “السلفية” معيارًا للإيمان والاتباع

فقد حصر بعض الغلاة حقيقة الإيمان والتمسك بالسنة في هذا الاسم فقط، حتى صاروا لا يعترفون بأخوّة الإسلام ولا بانتماء المسلمين من أهل السنة والجماعة إلا لمن شاركهم هذا الاسم.

وبذلك أطلقوا على من خالفهم في بعض اجتهاداتهم — وإن وافقهم في العقيدة والمنهج والسلوك — وصف “أهل البدع”، وامتحنوا الناس بناءً على موقفهم من غير المنتسبين إلى السلفية، باعتباره معيارًا على الالتزام بما يسمونه “المنهج السلفي” أو عدمه. ومن أطلق عموم طوائف أهل السنة والجماعة على أنهم مبتدعة صار وفق فهم هؤلاء الغلاة سلفيًا، وإلا يُعد مبتدعًا كمثلهم.

وهذا قلب صارخ للموازين الشرعية، إذ أن الابتداع والاتباع لا يُوزع بمجرد الانتساب إلى أسماء أو رفع شعارات. فحصر اسم السلفية للاتباع يُعد لقبًا محدثًا وتضييقًا لما وسّعه الله، وتفريقًا لما أمر الله بجمعه، وتزييفًا لحقائق الشريعة.

2- اتخاذ الولاء والبراء على أساس الاسم أو المنهج

انحرف بعض المنتسبين إلى “السلفية” أو غيرها من الجماعات عن الميزان الشرعي للولاء والبراء، فجعلوه مرتبطًا بالانتماء للاسم أو الجماعة، فصار الحب والبغض لا على أساس الحق أو الدين، بل على أساس الانتماء لذات الاسم السلفي أو عدمه، ولو كان الشخص أوثق بالحق وأقرب إلى السنة منهم.

فهؤلاء الغلاة يقصرون الولاء على من يحمل الاسم ذاته، ويتبرؤون مطلقًا من باقي المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة، بما في ذلك أصحاب الطرق الصوفية، والحركات الدعوية الإخوانية والسلفية الأخرى، فيطلقون عليهم وصف “أهل البدع” ثم يتبرؤون منهم، متجاوزين بذلك قاعدة الأخوّة الإسلامية والميزان الشرعي في الولاء والبراء.

كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “الواجب موالاة أولياء الله المتقين من جميع الأصناف، وبغض الكفار والمنافقين من جميع الأصناف، والفاسق يُعطى من الموالاة بقدر إيمانه، ويُعطى من المعاداة بقدر فسقه” (مجموع الفتاوى).

ولكن هذا الميزان الشرعي يضيع عند بعض الغلاة، فيضعون الولاء الكامل لأصحاب الاسم أو المنهج ويعلنون البراء الكامل من غيرهم من المسلمين، كما لو كان الاسم السلفي أعلى منزلة من اسم الإسلام أو من أهل السنة والجماعة، وهذا سلوكٌ انحرافي عن ميزان الشرع.

وأوضح الأمثلة على ذلك ما شهدناه في الأحداث الأخيرة بين أهل فلسطين وإسرائيل، وبين إيران وإسرائيل، حيث رأينا بعض هؤلاء الغلاة يركزون انتقاداتهم على حركة حماس ويبرئون أنفسهم منها لمجرد أنها لا تنتسب إلى المنهج السلفي، متجاهلين معاناة المسلمين في غزة وفلسطين عمومًا، بينما صمتوا عن جرائم إسرائيل ضد المسلمين كأن لم يكن شيئا، وكأن الولاء لمصالح فكرية أو منهجية يفوق الولاء للإسلام والمسلمين.

وبالمثل، حين شنت إسرائيل هجومًا مفاجئًا على إيران، نشر بعض هؤلاء الغلاة مقاطع ومنشورات تتحدث عن الشيعة وجرائمهم في بعض البلدان الإسلامية، لتأكيد براءتهم من الشيعة وإيران، بدل أن يوازنوا بين من هو أخطر على المسلمين وإيذاءً لهم في هذا الظرف: إيران أم إسرائيل؟ أو من هو أقرب دينًا لهم وأجدر بالولاء وفق معيار الولاء والبراء الشرعي، الذي يجب أن يُقيَّم على أساس الحق والدين، لا على أساس الاسم أو الانتماء الفرعي.

فالواجب على المسلم أن يعطي ولاءه لكل أصناف المسلمين كل بحسبه، وبغضه للكفار من جميع الأصناف مطلقًا، كما قال النبي ﷺ: “ثلاثٌ من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار” (متفق عليه).

ومن جعل ميزانه اسمًا بذاته أو جماعة بعينها فقد أعرض عن الصراط المستقيم وأصبح خارجًا عن الميزان الشرعي الذي يميز المؤمن الحق عن غيره، مخالفًا ما جاء في كتاب الله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة: 55] وقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71]

ومن هذا المنطلق، ينبغي أن يكون حب المسلم تابعًا لمحبة الله، وسخطه تابعًا لسخط الله، لا لدوافع ذاتية أو للأسماء والأشخاص والأفكار، ما لم يكن موافقًا للكتاب والسنة وطريقة السلف الصالح.

3-  التعصّب لذات الاسم دون الإسلام وأهل السنة والجماعة 

لقد بالغ بعض المنتسبين إلى الدعوة السلفية في رفع هذا الاسم حتى فضّلوه على اسم الإسلام، وعلى الاسم الجامع “أهل السنة والجماعة”، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل جاوزوه إلى الحكم على الناس وتبديع من لم ينتسب إليهم، وإن كان موافقًا لهم في العقيدة والمنهج والسلوك.

وقد نهى النبي ﷺ عن التعصّب المذموم ولو كان لأسماء شرعية أصيلة أقرها الوحي، فكيف إذا كان التعصب لأسماء محدثة أو موروثة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة؟

فعندما وقعت خصومة بين رجلين من المهاجرين والأنصار، فنادى أحدهما: “يا للمهاجرين”، وقال الآخر: “يا للأنصاري”، غضب النبي ﷺ وقال: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة» (رواه البخاري ومسلم).

فإذا كان التعصّب لاسم شريف كـ”المهاجر” أو “الأنصاري” دعوى جاهلية منتنة، فكيف بالتعصّب إلى أسماء لم يرد في الشرع أصلًا مثل: “السلفي”، أو “الإخواني”، أو “الصوفي”؟

إن التعصّب للأسماء والشعارات من خصائص أهل الكتاب، الذين علقوا النجاة بألقابهم دون حقيقة الاتباع، كما قال الله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ﴾ [البقرة: 111]

فرد الله عليهم بقوله: ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾

وكذلك حال كثير من الغلاة والمبتدعين، من الشيعة والخوارج وغيرهم، الذين يعلّقون الهداية والنجاة بأسماء وألقاب مستحدثة لم يشرعها الله، متجاوزين الالتزام بحقيقة الدين والعمل بالشرع.

وهذا يوضح أن الحق لا يقوم على مجرد الانتماء الاسمي أو الشعارات البشرية، بل على البرهان والحجة، والاتباع الصادق لطريق الله وهداه، كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأعراف: 172]

فالميزان الحق إذن ليس في رفع الشعارات ولا الانتصار للأسماء، وإنما في الثبات على الإسلام، الاسم الرباني الجامع: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا﴾ [الحج: 78]

ثم في لزوم جماعة المسلمين الذين عرفوا باسم “أهل السنة والجماعة”. فكل اسم يندرج تحت هذين الاسمين الجامعين: الإسلام وأهل السنة والجماعة، وأي تعصّب يقدّم ما سواهما فهو خروج عن الميزان الشرعي ووقوع في دعوى الجاهلية، وإن تلبّس بلباس الشرع.

4- الاعتزاز باسم “السلفي” بدل اسم الإسلام أو أهل السنة والجماعة

الأصل في المسلم أن يرفع اسم الإسلام ويعتز به، فهو أعظم نعمة وأكمل دين، كما قال تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا﴾ [المائدة: 3]

والإسلام هو الاسم الجامع الذي يميّز المؤمن عن غيره، وبه تتحقق العزة الحقيقية كما قال عمر رضي الله عنه: «كنا قوماً أذلاء، فأعزنا الله بالإسلام»

ولذلك لا يجوز لأي اسم أو منهج فرعي، مهما ادعى أصالته، أن يُرفع فوق الإسلام أو أهل السنة والجماعة، الذي أنشأه السلف الصالح لمواجهة أهل البدع في أواخر عهد الصحابة، مثل التشيع والقدرية والخوارج. وكان الهدف منه تمييز سواد الأعظم من أهل الإسلام الذين تمسكوا بطريقة النبي ﷺ في العلم والعمل، ووقفوا مع جماعة المسلمين عن غيرهم من أهل الفرق الضالة، كما ذكر الصحابي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسيره لقوله تعالى: ﴿يوم تبيض وجوه وتسود وجوه﴾ [آل عمران: 106]

فسرّ:  تُبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسوّد وجوه أهل البدعة والفرقة، وهو ما أكده الحافظ ابن كثير في تفسيره.

ومن يرفع اسم “السلفية” أو أي اسم منهج فرعي فوق الإسلام أو أهل السنة والجماعة، فهو خارج عن الميزان الشرعي، إذ يجعل أسماء بشرية أو شعارات مستحدثة أو موروثة تفوق الاسم الجامع: الإسلام وأهل السنة والجماعة.

وقد بالغ بعض الغلاة المنتسبين للدعوة السلفية في الاعتزاز بالاسم السلفي، حتى صار الاسم يُبشر به الناس وكأنه دين مستقل أو موازٍ للإسلام. ومن أمثلة ذلك، مقطع لأحد الشيوخ يبشر بأن أسرة “دخلت السلفية”، بينما كانت الأسرة أصلاً مسلمة وحضر رب الأسرة المسجد النبوي. استبشر الشيخ بها كما لو أنهم أسلموا لأول مرة، وكتب على المقطع: “أسرة كاملة دخلت الإسلام بسبب مقطع فيديو”، بدل أن يوضح أن الأسرة تأثرت بالمنهج السلفي حسب تعربفهم، وهذا غلو خطير، إذ صار اسم المنهج يُرفع فوق اسم الإسلام، كما يفعل بعض الشيعة حين يروّجون للتشيع وكأنه دين مستقل أعلى من الإسلام.

وينبغي أن يعلم طلاب العلم والدعاة أن الاعتزاز الحقيقي يكون باسم الإسلام أولًا، ثم باسم أهل السنة والجماعة، وكل اسم فرعي أو منهج لا يجوز رفعه فوقهما. وإلا فقد يضل العامة أو الغلاة من أهل الدعوة، ويظنوا أن اسم السلفية موازٍ للإسلام أو لأهل السنة والجماعة، وهو أمر مرفوض شرعًا وعقلًا.

وختاما: كتبت هذا المقال لأطلق رصاصة رحمة على الغلاة المنتسبين — زورًا وبهتانًا — إلى المنهج السلفي، والمتجاوزين حدود الاعتدال. لقد ضاقت بي طرق التنبيه بالخفاء وأُغلقت أبواب الحوار، فكان لزامًا عليّ الإنذار بما أستطيع.

وليس الهدف التجريح أو التشنيع على من تمسّك بالحق وسار على صراط السلف الصالح، ولا كره المنهج أو أصحاب المنهج المعتدلين، بل هو تذكير لهم بلطف ورحمة، للعودة إلى الطريق المستقيم والمنهج السلفي الصحيح، المتأصل في أسس أهل السنة والجماعة، قبل أن يستفحل الخطر ويضيع الناس في ظلمات الغلو والتعصب.

وأقول لهم كما قال أحدهم: أَبِي الإِسْلَامُ لا أَبَا لِي سِوَاهُ ::::::: إِذَا اِفْتَخَرُوا يَقِيسُ أَو تَمِيمُ.

بقلم: علي أحمد محمد المقدشي

زر الذهاب إلى الأعلى