من الإهمال إلى الخلود : عباقرة بلا وطن

قدّمت الحضارة الإسلامية نموذجًا راقيا في التقدم والتطور، فلم تكن مجرد حضارة عبادة وزهد ، بل كانت حضارة علم وفكر ، برز خلالها علماء موسوعيون أمثال: أبو يوسف الكندي: مؤسس الفلسفة الإسلامية، وكان من أوائل من ساهموا في التوفيق بين العقل والنقل، وكذالك ابن سينا: الطبيب والفيلسوف الذي ألّف كتاب “القانون في الطب”، الذي ظل مرجعًا طبيًا عالميًا لعدة قرون، وجابر بن حيان: مؤسس علم الكيمياء التجريبي، وصاحب الاسهامات البارزة في العلوم التطبيقية، والخوارزمي مؤسس علم الجبر، والبيروني عالم الفلك والرياضيات والجغرافيا، والزهراوي مؤسس علم الجراحة الحديث، وابن خلدون مؤسس علم الإجتماع، والرازي وابن رشد: فلاسفة المسلمين القدماء ، اللذان أثرا الحياة الفكرية والعلمية بشكل غير مسبوق،

كل هؤلاء العلماء والمفكرين ممن لايحصون عددا، ساهمو في تطوير حضارتنا الإسلامية، ولكن للأسف لم يلق معظمهم التقدير والإحترام الذي كانو يستحقونه، بل معظهم حكم بالزندقة والكفر واحرقت كتبهم واهملت أفكارهم ، وصارو مهمشين في المجتمع، وحينما فقدو مكانتهم العلمية في داخل المسلمين، وجدو بعد قرون إحتراما وتقديرا لافتا في المجتمع الغربي، فقدرت إنجازاتهم العلمية، ونصب لهم تماثيل في الساحات العامة في مدن أوروبا، وسُمّيت بعض الكليات والأقسام العلمية في الجامعات الغربية بأسمائهم، تقديراً لإسهاماتهم التي كانت الأساس الذي قامت عليه النهضة الغربية الحديثة، ولعلّ ما يزيد المفارقة مرارةً أن الكتب التي حُرقت أو أُهملت في داخل العالم الإسلامي، قد نُقلت إلى أوروبا، حيث تُرجمت إلى لغاتهم، واعتمد عليها المفكرون والعلماء الغربيون في بناء أسس حضارتهم، قلّما نجد في تراثنا الإسلامي من يُبرز أو يُنصف إسهامات أولئك العباقرة من مفكري الحضارة الإسلامية، والمؤسف أن معظمنا لم يتعرف من خلال مصادرنا الإسلامية بل جاءت معرفتنا بهم عن طريق الغرب، الذي أعاد إحياء تراثهم، ودرسه، واحتفى به، فهم كانو أبناء حضارتنا، لكن الغرب هو من عرّفنا إليهم، وأعاد تقديمهم للعالم بما يليق بقيمتهم ومكانتهم العلمية.

والإنصاف يقتضي الاعتراف بأن عددًا من هؤلاء العباقرة، وقعو في أخطاء عقدية خطيرة لا يمكن التغاضي عنها. فقد تبنّى بعضهم آراء كـ”قِدم العالم”، و”أزلية الكون”، واعتقاد أن الله يعلم الكليات دون الجزئيات، بل وذهب بعضهم إلى تفضيل الفلاسفة على الأنبياء، وهي أقوال تخالف أصول العقيدة الإسلامية، وقد كانت سببًا رئيسيًا في اتهامهم بالكفر أو الزندقة، وهو حكم لا يخلو من وجاهة بالنظر إلى موازين العقيدة الصحيحة.

لكن، رغم ذلك، فإن الإشكال لم يكن فقط في الخطأ العقدي، بل في غياب محاولة الفصل بين نتاجهم العقدي المنحرف، وبين إسهاماتهم العلمية الخالصة التي كان من الممكن أن تُستثمر، وتُطوَّر، ويُبنى عليها. فلو وُجد هذا الفصل، لربما أمكن الاستفادة من علومهم دون تبني انحرافاتهم، ولربما ظهر لهم تلاميذ يحملون مشعل العلم دون أن يكرروا تلك الزلات الفكرية، مما كان سيضمن استمرار التراكم المعرفي داخل الأمة، بدل أن يُترك ليُلتقط ويُطوّر في حضارات أخرى.
كثيرًا ما يُتداول ادعاء أن الغرب “سرق” حضارتنا وبنى نهضته على أطلالها، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا وأقل ظلمًا: لم تُسرق حضارتنا، بل نحن من أهملناها. فحين يغفل مجتمع عن مبدعيه، ويتنكر لروّاده، لا عجب أن يلتقط غيره هذا الإرث ويعيد إحياءه. فالأفكار لا تموت، لكنها تنتقل إلى من يحسن تقديرها.

الحضارة لا تُبنى فقط على “سلامة المعتقد”، بل أيضًا على “سلامة العقل”، فإن فشلنا في الاستفادة من هذه العقول اللامعة ساهم في انقطاع السلسلة الحضارية الإسلامية، وفتح الباب واسعًا لركودٍ طويل دام قرونًا. وفي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تُحيي ما أنتجه أولئك العلماء من علوم، كانت الأمة الإسلامية تعيش على هامش ما أنتجته، دون تواصل أو تطوير حقيقي.

ولعل من الواجب، في هذا السياق، أن أوجه نداءً إلى بعض الدعاة والمنشغلين بالخطاب الديني، أن يكفّوا عن الهجوم المستمر على كل جديد لمجرد أنه غير مألوف، إن معيار القبول أو الردّ في الشريعة ليس مدى الألفة أو الاستغراب، بل مدى موافقته للكتاب والسنة، ومقاصد الشريعة، وثوابت الدين.

ومن سنن الله في الرسالات والإصلاحات أن التجديد الحقيقي لا يخرج من رحم التكرار، بل من القدرة على إحياء الثابت في قالب متجدد، يخاطب الإنسان في كل زمان بمفردات عصره، ويواجه تحدياته بأدوات عقلانية وشرعية متوازنة.
ما ينبغي أن يُدركه الدعاة والعلماء والمصلحون أن التجديد ليس تهديدًا للدين، بل ضرورة لبقائه حيًا ومؤثرًا. فحين يُحاصَر الدين في قوالب جامدة، ويُمنع من التفاعل مع الواقع، يتحول إلى منظومة منفصلة عن الحياة، ويغدو غير قادر على الإجابة عن أسئلة الناس، أو قيادة نهضتهم.

لقد واجه المجددون في كل عصر مقاومة شرسة، لا لخلل في مقاصدهم، ولكن لأنهم تجرأوا على مغادرة المألوف، وتحركوا خارج دائرة التقليد المريح. ومع ذلك، لم يخلُ تاريخنا من علماء عظام جمعوا بين رسوخ العقيدة وجرأة العقل، بين الالتزام بالثوابت والانفتاح على آفاق الاجتهاد.

ولو تأملنا في أعمال أمثال الشاطبي، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، والغزالي ، وغيرهم، لوجدنا أنهم لم يكونوا مقلدين، بل نُقّادًا مبدعين، تجاوزوا دائرة المسائل المتكررة، وانشغلوا بقضايا الأمة الكبرى، وشخّصوا عللها، وسعوا لعلاجها بالعلم، والفكر لا بالتكرار والتقليد.

الكاتب: عبدالله محمد حسن

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى