كشف تناقضات العقلانيين (2)

لو طَبَّقْنَا نفس أسلوب العقلانيين الذين يَرُدُّون به النصوص الشرعية، سواء كانت قرآنًا أو سنة أو إجماعًا، لَكُنَّا قد رددنا على الله وتطاولنا على أوامره، وصار لسان حالنا يقول: يا الله، هذا ليس عقلًا أن تأمرني به، فإن عقلي يرفض هذا.

ولنأخذ بعض الأمثلة لبعض الأنبياء الذين أمرهم الله بأمور يستحيل على العقل أن يقبلها، لكنهم أسلموا عقولهم لله، ولم يناقشوا، بل حتى لم يترددوا في تنفيذ هذه الأوامر، وإن كانت قاسية ولا يقبلها العقل:

أولًا: إبراهيم عليه السلام، مؤسس الملة الحنيفية، والذي قال الله على لسانه: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الحج: 78].

فإبراهيم عليه السلام أَمَرَهُ الله بعدة أوامر غير معقولة في نظر الإنسان، لكنه أنفذها بناء على أنها وحي من الله. ومن تلك الأوامر:

أوحى الله إليه أن يترك زوجته وابنه إسماعيل عليه السلام في مكان صحراء قاحلة، لا وِرْدَ فيها ولا ماء، ولا يوجد هناك بشر ولا حيوان. أمره الله أن يترك حال زوجته وابنه إسماعيل، فلم يتردد إبراهيم عليه السلام في تنفيذ هذه الأوامر.

بينما في المقابل، يقول لسان حال العقلاني: يا رب، هذا غير معقول! كيف أترك زوجتي وابني في هذا المكان المجهول الذي لا يسكنه أحد؟ إنهم سيموتون حتمًا!! فأسلوب العقلاني هو التطاول على الله والرد على كلامه…

وإبراهيم عليه السلام أيضًا، حينما أراه الله في منامه أنه يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، حينما استيقظ شرع في تنفيذ هذه الرؤية بناء على أن رؤى الأنبياء وحي وهي حقيقة، فتناول السكين وأقبل على ابنه، فقال له: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ﴾ [الصافات: 102]، فلم يتردد إسماعيل هو الآخر في تنفيذ هذا الأمر الرباني، ولم يقل: كيف يأمرك الله أن تذبحني؟ هل أنا ظالم؟ أنا بريء يا أبي!!

بل أسلم لله وانقاد لأمره، فقال: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102].

ولسان حال العقلاني: كيف يأمر الله بذبح طفل مسكين لا حول له ولا قوة؟! مستحيل أن يأمر الله بقتل طفل بريء!! لا بد من مراجعة الرؤيا!!

فحين يأمر الله عز وجل بشيء، يجب في أول وهلة أن نعلم علم اليقين أن الله حكيم، ويضع الأمور في مواضعها، فقد يشرع الله أحكامًا نرى أنها قسوة وشدة، ولكنها رحمة.

فالإنسان مفطور على حب العاجلة، وبُغض ما يضر نفسه، وكذلك خُلِقَ من عَجَل، ويستعجل في بعض الأحيان. لكن المسلم لا بد أن يُسَلِّم عقله وقلبه لله، وينقاد إليه بنفسه كلها…

أما العقلاني، فلا ينقاد إلى الله بعقله، لكنه يزعم أنه ينقاد إليه بجوارحه؛ أي أنه يصلي ويصوم ويحج، لكنه يرد بعض النصوص لأنها لم توافق عقله!!!

وقد سبق أن أشرنا في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام وموقف العقلاني منها، إذا وقف في نفس موقف إبراهيم الخليل عليه السلام، ولكن الفارق أن إبراهيم: عبد مؤمن انقاد لأمر الله بعقله وقلبه وجسمه كله، ولم يتردد في تنفيذ أوامر الله، فنال النعيم في الدنيا، حيث فدى الله ابنه بذبح عظيم، شُرِع فيه كل سنة للمسلمين الحنيفيين، الذين هم أتباع إبراهيم عليه السلام، حيث قال جل شأنه: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 107].

وكذلك لم يُضِع الله امرأته وولده إسماعيل حين تركها امتثالًا لأمره، بل أكرم الله زوجته وولده بشرف عظيم ومكانة عظيمة، حيث سَبَّبَ الله حفر بئر زمزم عند قدمي إسماعيل وهو صغير.

فهذا هو الفرق بين من يُنَفِّذ أوامر الله طوعًا وكرهًا، وبين:

العقلاني: الذي لسان حاله: يا رب، كيف تأمرني أن أترك زوجتي بدون زاد، وولدي بدون لبن؟ يا رب، كيف أذبح ابني؟ هذا لا يقبله عقلي…

هذا الفرق بين المؤمن والمنافق، بين المطيع والعاصي..

ثانيًا: نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يَصدَع بالدعوة ويَجْهَر بها بعد ثلاث سنوات فقط من بدء الوحي عليه، وليس لديه أتباع كثيرون، ناهيك أن بعض أتباعه مستضعفون في مكة، فلا قِبَل لهم بمجابهة وجهاء قريش المتجبرين، حينما نزل عليه قوله سبحانه: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾. يكون لسان حال العقلانيين: كيف يأمرنا الله ونحن ضعفاء؟ العقل يدل على أن ننتظر حتى تقوى شوكتنا ونجد أتباعًا وأنصارًا من شتى البقاع، ثم نجهر بالدعوة؟ لماذا نُلقي بأيدينا إلى التهلكة؟

هذه الاعتراضات وغيرها الكثير على لسان حال العقلانيين، وفي المقابل، الرسول صلى الله عليه وسلم انقاد إلى أمر ربه وجهر بالدعوة، وكذلك أصحابه رضي الله عنهم حذوا حذو قائدهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمعًا وطاعة، وتلقوا صنوفًا من الأذى على أيدي كفار قريش، حتى قُتل الكثير، وعُذّب الكثير. فممن قُتل وعُذّب أسرةٌ كاملة، قُتل فيها أبوا عمّار رضي الله عنه؛ أمه سمية وأبوه ياسر رضي الله عنهما، على يد فرعون الأمة أبو جهل؛ بينما عُذّب عمّار رضي الله عنه، وواساهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة!!!”

ولم يتفوه أحد منهم بمثل هذه العبارات: لماذا لا تدعو الله عليهم فيهلكهم جميعًا؟ أو: تدعو الله لنا فنخرج من هذا العذاب يا رسول الله؟ أو: لماذا يأمرنا الله بالجهر في هذا الوقت بالتحديد ونحن لا حول لنا ولا قوة؟ أو: نحن لا قِبَل لنا بمواجهة قريش!!!

كل ذلك كان واقعًا، ومع ذلك لم يخطر ببالهم هذه المعاندة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وانقادوا لأمر الله وسلّموا له تسليمًا، وهذا هو الفرق بين المؤمن والمنافق.

حتما لا يكون “العقلاني” إلا وهو يُفَنِّد أقوال الله، ويقبل ما يشاء، ويرد ما يشاء، وكأن دين الله هو دين الخِيَرة، وليس دين الإسلام الذي هو الاستسلام له…

محمد بن الحسن

كاتب وباحث صومالي ، خريج ماجستير في أصول الفقه من الجامعة الإسلامية
زر الذهاب إلى الأعلى