كشف تناقضات العقلانيين (3)

فالمنافقون الذين كانوا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم أرجح عقلاً من العقلانيين الحاليين؛ لأن المنافقين لم يكونوا بهذه السذاجة من التخلف العقلي والتفكير السطحي، فلم يُعَيِّروا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم متخلفون، وهم الذين كانوا يسعون ليل نهار في اختراع أساليب لتنقيص النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ودين الإسلام، ولم يُسلِّطوا الضوء على الأمور السياسية والإدارية مقارنين بتقدم الإمبراطورية الفارسية والرومية، ولم يقولوا إن جنود المسلمين ضعفاء لأن ليس لديهم القوة الجسدية الهائلة في مقابل جندي الفرس والروم. بخلاف العقلاني الذي يصور ويقارن كل شيء موجود في المسلمين ويراه تخلفاً، بينما يُجِلُّ الغرب إِجْلالاً عظيماً.

فلذلك كان المنافقون يشتغلون بالأمور التي تُحْدِث فوضى وبلبلة بين الصحابة، مثل إحياء نبرة صوت القومية والقبيلة مُنَمَّقَة بصورة إسلامية، وذلك بإحداث فتنة بين المهاجرين والأنصار، وكان صلى الله عليه وسلم يعالج هذه الأمور، لكن لم يُنْقَل أنهم عَيَّروا الصحابة بأنهم متخلفون، وأن الفرس والروم هم أهل حضارة. فذلك يدل على أنهم فهموا أن الصحابة لا يلقون لها بالاً، ولا قيمة عندهم لهذه الأشياء، ولذلك كانوا حريصين على إحداث البلبلة بين الأنصار والمهاجرين.

لكن في المقابل، العقلاني ليس له أسلوب علمي أو عقلي، وليس له أولويات في ترتيب الأحداث والأمور، وليس له قدرة على التصرف في القضايا الحرجة، فيبدأ بالحديث: نحن تخلَّفْنَا والغرب تقدموا لأننا أَحْجَمْنَا عن العقل، وهم استخدموا عقولهم وطوروها، ونحن قيَّدتنا نصوص مناسبة للقرن الأول أو الثاني من الهجرة، بينما الغرب عزلوا رجال الدين وأعطوا الأولوية لعلماء المادة والمفكرين الاستراتيجيين.

انظر إلى هذا الانحطاط السخيف والفكر السقيم الذي يهدمه سؤال واحد فقط: عندما استخدم المسلمون عقولهم ضد الشرع فأصبحوا عقلانيين متخلفين، وعندما تمسكوا بالدين ولم يعارضوا الشرع كم سنة؟ ثلاثة عشر قرناً والمسلمون يقودون البشرية والإنسانية إلى شرع الله، وذلك بتمسكهم بدين الله، ولكن عند إعمال العقل محل الشرع ورد النصوص، ماذا أصبح المسلمون؟ أصبحوا كما تراهم متخلفين، ليس لأنهم لم يستخدموا العقل، بل لأنهم أهملوا دينهم، وحينما يعودون إلى دينهم يعود سؤددهم وسلطانهم في الأرض.

والصحابة لم يكونوا معجبين بحضارة الفرس والروم، ولا تجد أثراً واحداً عن الصحابة أنهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه: لماذا لا نصل إلى حضارة هؤلاء؟ ولم نحن في هذه الصحراء القاحلة؟ كيف نواجه من يحكم ثلث العالم ونحن فقط نسكن هذه المدينة التي لا خراج فيها كما عندهم؟ لم يسألوا لأنهم لم يكونوا عقلانيين متخلفين، وإنما كانوا يعلمون علم اليقين أن حضارة الكفار لا تجدي شيئاً، وأنه وإن بلغوا من العلوم النظرية والتطبيقية ذروتها، فهم ذليلون خاسرون بكفرهم وشركهم بالله، وأن المسلمين أعزاء بدينهم، وأنهم إن تمسكوا بدينهم دان لهم الشرق والغرب والعجم والعرب، فركزوا أمور دينهم، فأسقطوا أعظم إمبراطوريتين في التاريخ في أقل من عقد.

كيف تُقنع العقلاني أن رجالاً من قلب الصحراء واجهوا الروم والفرس بصدور عارية، بينما الروم والفرس المدججون بالسلاسل الحديدية أصبحوا ما بين مقتول ومأسور وفارّ؟ لم يفهموا لأنهم تركوا عقولهم وباعوها بثمن بخس لأعداء الله…

العقلاني بسلوكه الفوضوي وتفكيره البعيد عن الدين والعقل والمنطق، صار تشبثه بحضارة الغرب أولى وأَحْرَى من تشبثه بدين الله ومنهاجه؛ فتراه يلهث بتقدم الغرب، ويلوم أهل الإسلام بأنهم متخلفون، وأن سبب هذا التخلف هو عدم إعمال العقل وتقبُّل النصوص هكذا مجردة دون أن نعرضها على العقل الصحيح، فلذلك تراه وهو يمدح إنسانية الغرب وتقدمهم، وأنهم أناس طيبون أكثر من المسلمين، وأن قلوبهم مثل أفئدة الطير، وغير ذلك.

هذا السلوك إن دل فإنما يدل على جهل بالحقائق والوقائع الماضية والحاضرة، إضافة إلى بُعده عن الدين كما أسلفنا ذكره. فمثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أُسري به إلى ربه، فالتقى ببعض الأنبياء في بعض السماوات، ومع هذا لم يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم عن شكل السماء: هل هي مستديرة أم مسطحة؟ وإنما ركز على ما يخص المسلمين في أمور دينهم، ففُرِضَت على المسلمين خمس صلوات، والذي كان يحاوره هو موسى عليه السلام، وما كان يحاوره في أمور دنيوية، وإنما لتخفيف عدد الصلوات عن أمته.

في هذه اللحظة المهمة التي التقى فيها خليل الله وحبيبه محمد وكليمه موسى عليهما الصلاة والسلام، لماذا لم يتكلما في أمور دنيوية أو كيف يصبحون مثل تقدم الفرس والروم وحضارتهم؟

وعندما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الدجال وكيفية خروجه، وكيف أنه يفتن الناس عن دينهم ويضلهم، سأل الصحابة رضوان الله عليهم عن أمر عظيم، وهو: إذا كان الدجال يمكث أربعين يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، كيف نحدد وقت الصلوات؟؟

لماذا لم يسألوا كيف نواجه هذا الدجال بأسلوب علمي حواري سلمي أو حتى حربي نقف ضده؟ كيف يضل الناس ويدعي أنه إله؟ لماذا يُسلط الله على عباده هذا الكائن الخارق؟ لم يسألوا لأن ميزان “لا إله إلا الله” عندهم كان في كفة السماوات والأرض، ولأن يَخِرّوا من السماء السابعة إلى الأرض أهون عليهم من أن يردوا كلام رسولهم صلى الله عليه وسلم بعقولهم؛ فسألوا ما يهمهم، وهو أمور دينهم، وكيف يحددون وقت صلواتهم.

محمد بن الحسن

كاتب وباحث صومالي ، خريج ماجستير في أصول الفقه من الجامعة الإسلامية
زر الذهاب إلى الأعلى