ليست العقبات التي تعترض طريق الدعوة دائمًا من صنع خصومها أو من مكائد الخارج؛ فكثير من العوائق يخرج من داخل الصف، حين تضطرب الموازين بين ما أمرنا الله بتعظيمه حقًّا، وما رفعناه نحن فوق منزلته بلا حق. عندها يتقدَّم الأشخاص والانتماءات على النصوص والشرائع، فيفسد معيار الولاء والبراء، ويختلط التقديس المشروع بالتقديس الممنوع.
لقد ازدحمت الساحات اليوم بالشعارات، وتكاثرت الجماعات، وارتفعت رايات الدعوة والعلم، حتى ظنَّ البعض أن الخلافات الدائرة بينهم ليست إلا فروقًا فقهية أو أسلوبية، لكن الحقيقة أعمق وأخطر؛ إذ تكمن في قلب الموازين: إهمال ما عظَّمه الله ورسوله من نصوص الوحي وأحكام الشرع، مقابل رفع الأشخاص والانتماءات الحركية أو المدرسية إلى مقام فوق النقد والمراجعة.
وليس هذا حكرًا على تيار دون آخر؛ فكثير من أتباع الطرق الصوفية، وكثير من المنتسبين إلى الحركات الإسلامية، سواء ذات المرجعية الإخوانية أو السلفية، يتعاملون مع شيوخهم وكأنهم معصومون من الخطأ، لا يُسألون عمَّا يفعلون، وإن زلُّوا أو خالفوا صريح الشرع. تُجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة لا تُمس، ويصبح نقد الشخص طعنًا في الدين أو خيانة للمنهج الحق والدين القويم، حتى صار الولاء والبراء يدور حول الأشخاص لا حول الشريعة الإسلامية المقدسة.
ولم يتوقف الخلل عند الأشخاص، بل تجاوزه إلى الأفكار التنظيمية والاجتهادات الدعوية، التي تُعامل أحيانًا كما لو كانت مسلَّمات قطعية، ولو خالفت نصوص الوحي أو أبسط بدائه العقول، وتُمرَّر تحت لافتات براقة: فقه الواقع، موازين المصلحة، اتباع المنهج الحق… حتى تكاد تُرفع فوق النص الشرعي نفسه.
وقد جاء التحذير في كتاب الله وسنّة نبيه ﷺ واضحًا لا لبس فيه، لنبذ الشعارات الجوفاء، والافتخار بالآباء، والتزكية بالأنفس، دون الاستقامة على المنهج؛ قال تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123]، فالمعيار هو العمل الموافق للشرع، لا مجرّد الانتماء أو رفع الشعارات. وحين ارتفعت في المدينة أصوات العصبية، ونادى المهاجرون والأنصار براياتهم، قال النبي ﷺ: «دعوها فإنها منتنة»، فكل عصبية مقيتة –مهما تلونت أو تسمّت– مرفوضة شرعًا.
إن إصلاح المسار يبدأ برد الأمور إلى نصابها، بتعظيم ما عظَّمه الله ورسوله، وجعل الوحي هو المعيار الأوحد، على قاعدة: «كلٌّ يُؤخذ من قوله ويُترك إلا صاحب هذا القبر»، وأن يُفتح باب النقد والمراجعة للجميع دون استثناء، فلا عصمة لأحد بعد رسول الله ﷺ.
الدعوة التي توزن فيها الرجال والأفكار بميزان الحق، هي الدعوة الباقية المثمرة، مهما عصفت بها الفتن. أما التي تُقدِّس غير المقدَّس، وتغفل عن تعظيم ما عظَّمه الله، فإنها تذوي من الداخل، ولو رفعت أسمى الشعارات.
فمن جعل الحقَّ ميزانه، نجا، ومن جعل الرجال ميزانه، ضلَّ. قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153]. فالواجب على المسلم أن يلتزم الصراط المستقيم، ويدور مع الحق حيث دار، لا أن يلتف حول الأشخاص أو الرموز أو الشعارات؛ فالدين لله، والحق باقٍ، والرجال يخطئون ويصيبون، والحق لا يُعرف بالرجال، بل الرجال يُعرفون بالحق، كما قيل: «اعرف الحق تعرف أهله».
بقلم: علي أحمد محمد المقدشي