لم يشهد التاريخ الحديث نكبةً أشد فتكًا، ولا أطول أمدًا، من نكبة الشعب الفلسطيني؛ نكبةٌ لم تقتصر على التهجير والتشريد، بل اجتثّت الجغرافيا، وزيّفت التاريخ، وشرخت الوجدان، وظلّت نيرانها مشتعلةً لأكثر من سبعين عامًا، تحصد أرواح الأبرياء، وتحيل القرى إلى رماد، تحت وطأة أسلحة لا تفرّق بين طفل وشيخ، ولا ترأف بامرأة أو جدار.
واليوم، تبلغ المأساة ذروتها؛ فالحرب لم تعد نارًا وحديدًا، بل غدت جوعًا قاتلًا، وعطشًا خانقًا، وحصارًا مطبقًا من كل الجهات. يُتركون ليموتوا موتًا بطيئًا، بلا دواء، ولا غذاء، ولا حتى مأوى يأوي إليه من نجا من لهب القصف. يموت الرضّع عطشًا، وتختنق الأمهات ألمًا، ويتلوّى الشيوخ جوعًا، والعالم “المتحضّر” يتفرّج بصمتٍ مروّع، أو يمدّ آلة القتل بالمال والسلاح جهارًا، بينما تكتفي دول الجوار بالتنديد الخافت، أو الصمت المخزي، في تواطؤ لا يقلّ فتكًا عن رصاص العدو.
لقد نحلَت الأجساد، وذبلت الوجوه، وخبَت الأرواح تحت وطأة جوعٍ لم يكن بفعل قحطٍ طبيعي، ولا نتيجة نزاعٍ عابر، بل جريمةٌ متعمَّدة، ومؤامرةٌ مُحكمة، خُطّط لها في الظلام، ونُفّذت ببرودٍ قاتل، أمام أعين قوى تتغنّى بالحضارة، وتتباهى بشعارات حقوق الإنسان.
إنه جوعٌ ولكن لم يكن قحطا ولا قلة الأمطار ، بل سلاحًا أرضيًا خبيثًا، صيغ بأيدٍ بشرية، استُخدم لتركيع أمة، وتجويع أطفالها، وكسر قلوب أمهاتها، وإخماد أنفاس شيوخها. جوعٌ كشف زيف الشعارات، وأسقط أقنعة التمدّن، في زمنٍ انكسرت فيه أخوّة الدين، وخبت فيه نخوة الدم، وذبلت فيه رحمة الجوار، حتى صارت تلك القيم مجرّد ذكريات باهتة في ضميرٍ ميت؛ ضميرٍ لا يهتز لبكاء طفل، ولا لأنين أمٍّ مكلومة.
ولا أدري كيف تنعم دولٌ شقيقة، على مقربةٍ من الجراح، برغد العيش، وتطمح لسلامٍ داخلي واستقرارٍ دائم، وهي ترى العدو يغرس مخالبه في قلب الأمة، يسرق الأرض، ويهتك العرض، ويهين الكرامة جهارًا نهارًا، دون أن تتحرّك نخوة، أو تهتز غيرة. أما علموا أن نار الظلم إذا اشتعلت في دار الجار، فلن تسلم منها دار، مهما علت أسوارها؟
وأعجب – بل أكاد لا أصدّق – أن المساجد ساكنة، لا تضجّ بالدعاء، ولا يعلو فيها صوت القنوت في الصلوات الخمس؛ لا نصرةً لمظلوم، ولا دعاءً على ظالم.
المنابر خافتة، والرؤساء صامتون، كأنّ الأمر لم يعنيهم أو كأن أمرا لا يكن.
والتجّار قابضون أيديهم، كأنهم لم يسمعوا أنين الجياع، ولا رأوا العيون الغائرة في الأجساد النحيلة التي تتشبّث بالحياة.
أما الكتّاب؟ فكأنهم استبدلوا الحبر بالجمود، والأقلام بالصمت، وكأن القلوب قد تحجّرت، أو غدت أشد قسوة، كما قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلْأَنْهَٰرُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ﴾ [البقرة: 74]. ؟!
بقلم: علي أحمد محمد المقدشي