لقد وهب الله الإنسان العقل، وميّزه به من الحيوانات الأخرى والجمادات، وأمرنا بالتدبر والتفكر في آياته، وجعل العقل مناطًا للتكليف والفهم في الشرع، ولم يجعل سبحانه وظيفة العقل أن نشرِّع به ما لم يشرِّعه، أو أن نعرض كلامه على عقولنا، بل كما هو صريح الآيات، كما في قوله تعالى:﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم﴾، وقال أيضًا: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون﴾.
فلئن توعّد الله من رفع صوته على صوت رسوله ﷺ بإحباط عمله، فكيف بمن يقدّم عقله على سنته ويزعم أنها ليست ملزمة له، أو يعارض بعض أقواله ﷺ بحجج واهية؟ فإن هذا هو الضلال المبين والخسران العظيم.
وقد قعّد الفقهاء والأصوليون قاعدة: “لا اجتهاد مع النص”، لئلا يتطاول متطاول بحجة أنه مجتهد، فيجتهد مع النص. فلا اجتهاد مع وجود آية أو حديث، فكيف بمن يقول: “أعرض عقلي على هذه الآية، فإن وافقت أخذتها، وإن خالفت تركتها”؟!
وحين بالغ الإمام أبو حنيفة رحمه الله في القياس الجلي، تلقّى مواجهة شرسة من السلف رحمهم الله، وسُمّي هو وأتباعه بأهل الرأي؛ وهم يستخدمون القياس فقط، ولم يكونوا يعارضون النصوص بآرائهم وأهوائهم.
فأول من عارض أمر الله بعقله هو إبليس، الذي أبى السجود لأبينا آدم عليه السلام. وجميع العقلانيين لهم صلة أو وصف مشترك مع كبيرهم إبليس، فإبليس وإنْ تحجّج بأنه لا يسجد لآدم لأنه خُلق من نار وآدم خُلق من طين، مستخدمًا عقله القاصر وكبره، لكنه لم يكتفِ بالعداوة لآدم، بل نقلها إلى أبناء آدم، فما ذنب بني آدم؟ ولماذا يحسدهم؟ نفس تفكير العقلانيين الذين يحاربون كل داعية للدين، وكل داعية لاحتكام صوت النص، فلو كانوا صادقين بأن مشكلتهم مع العقل الذي لا يترقى ويفهم النصوص كما هم يفهمون، فلماذا التهويل والتضخيم ضد النصوص الشرعية وضد من يدعون إليها؟! إنها حيلة كبيرهم إبليس الذي علّمهم السحر.
ومن ثم، فإن أول من فتح هذا الباب في هذه الأمة هو الجعد بن درهم، الذي زعم بأن العقل يرفض اتخاذ الله إبراهيم خليلًا، وأنه كلم موسى، لكنه تلقى معارضة شديدة، فكان في عصر السلف، وتابع عليه أفراخه من أهل الأهواء، من الجهمية التي هي امتداد للجهم بن صفوان تلميذ الجعد، ومرورًا بالمعتزلة والأشعرية وغيرهم من أهل الأهواء والكلام، ثم تطوروا إلى ما يُسمى بالعصرانيين والتنويريين، الذين ضربوا عرض الحائط كثيرًا من الآيات والأحاديث بحجة أنها لا تناسب العصر، أو غير ذلك من الحجج الضعيفة الواهية.
وعلامة هؤلاء وقاسمهم المشترك في احتكار العقل: أنهم يزعمون أنهم هم العقلاء والنظراء والمفكرون، فمن عارض كلامهم اتهموه فورًا بأنه ضد العقل والمنطق، إلى غير ذلك. والذي يتابع هؤلاء أو قرأ لهم شيئًا من مصنفاتهم أو استمع إليهم، يدرك أنهم من أبعد الناس عن العقل، وعن الشيم والإنسانية التي يتشدقون بها، ويظهر بوضوح تناقضاتهم المضحكة.
ومن علاماتهم أيضًا: تقليل شأن السنة النبوية بجانب القرآن الكريم، بحيث لا يأخذون من السنة إلا المتواتر العلمي أو العملي فقط، وأما أحاديث الآحاد فلا يقبلونها أبدًا، إلا بشرط مضحك، وهو أن يوافق العقل لديهم، وغُلاتهم يعرضون عن السنة إعراضًا كليًّا، والأغرب أنهم يأخذون ويستدلون بأحاديث باطلة وموضوعة لأنها وافقت عقولهم!
ومن علاماتهم أيضًا: العجب من حضارة الغرب، وأن المسلمين يجب أن يحذوا حذوهم حتى يصلوا إلى نعال الغرب! وقد تناسى هؤلاء أن الصحابة رضي الله عنهم حين فتحوا البلاد والعباد لم يكونوا متعجبين بحضارة الفرس والروم، لأنهم لو كانوا متعجبين، أو تلهث نفوسهم لهذه الحضارة، لما وطئت أقدامهم عرش كسرى وقيصر.
ومن علاماتهم أيضًا: تفضيل بلاد المسلمين ودمائهم، فمن ذلك أنهم يتعاطفون تعاطفًا نفاقيًّا مع القضية الفلسطينية، التي يتعاطف معها العالم مسلمها وكافرها، ويُقلّلون من شأن بلاد المسلمين الأخرى التي تمر بنفس ظروف فلسطين.
ومن علاماتهم: تذويب الفوارق بين الإسلام والديانات الأخرى، وكذلك تذويب الفوارق بين الروافض وأهل السنة، فكيف يجتمع الشرك مع الإسلام في قلب عبد واحد؟!
وغيرها الكثير، وسنعمل على بيانها بجعلها سلسلة مقالات نردّ عليها بإذن الله.