ظهور الأرستقراطيين الجدد: تهديدٌ وجودي لمستقبل الدولة الصومالية

تمرّ الصومال اليوم بمرحلة دقيقة من الاستقطاب السياسي الممنهج، تقوده السلطة الحاكمة بتحالف حزبي ضيّق يستند إلى مفاصل الدولة وأدواتها الحيوية، في محاولة لإحكام القبضة على القرار السياسي والمؤسسي. وتُدار هذه الحملة بمنطق التمكين لا الإصلاح، حيث تُستقطَب الشخصيات النافذة – من نواب البرلمان، وقادة الأجهزة الأمنية، والوزراء، ورؤساء البلديات، والمديرين التنفيذيين – لتشكيل تكتّل مغلق يُكرّس الهيمنة، ويُمدّد أمد السلطة تحت عباءة الحزبية والانتماء الشخصي.

هذا الحراك لا يصدر عن رؤية إصلاحية، ولا عن مشروع وطني جامع، بل يعكس رغبة محمومة في إعادة إنتاج منظومة حكم قائمة على الولاء لا الكفاءة، وعلى المحسوبية لا المصلحة العامة. وهكذا، تتحوّل مؤسسات الدولة إلى شبكة من المناصب المحصّنة تُدار بمعايير الولاء السياسي، ويُهمَّش فيها معيار الكفاءة والنزاهة.

والأخطر من ذلك أن البلاد تنزلق تدريجيًا نحو نشوء طبقة حاكمة مغلقة، تحتكر القرار والثروة، وتُقصي الكفاءات، وتُهمّش الأصوات المستقلة، وتحرم شرائح واسعة من الشعب من حقهم في التمثيل والمشاركة. إنها عودة سافرة إلى منطق الدولة الطبقية، حيث تُفصّل السياسات على مقاس نخبة ضيقة، ويُترك المواطن العادي يرزح تحت وطأة التهميش والحرمان.

ويعيد هذا الواقع إلى الأذهان مشاهد الانقسام الاجتماعي والسياسي التي سبقت انهيار إمبراطوريات كبرى مثل اليونان وروما، حين تقاسم النبلاء والنخبة السلطة والثروة، بينما حُرم عامة الشعب – ممن سُمّوا آنذاك بـ”العبيد” أو “العامة” – من أبسط حقوقهم وكرامتهم الإنسانية.

لقد كانت نظرة الأرستقراطيين إلى مجتمعاتهم نظرة فوقية، تمييزية، ذات طابع أبوي أو نفوذي واستعلائي، تقوم على الاعتقاد بأنهم الفئة “المصطفاة بالفطرة” للحكم والقيادة. أما “العامة”، فكانوا في نظرهم غوغاء، جُبلوا على الجهل والعجز عن اتخاذ قرارات عقلانية، ولا يصلحون إلا أن يُقادوا لا أن يشاركوا.

ولتمرير هذا النموذج الأرستقراطي في واقعنا المعاصر، ظهرت ثلاث ولايات فيدرالية إلى جانب إقليم بنادر، تروّج لشعارات من قبيل “الانتخابات المباشرة”، في محاولة لإضفاء غطاء شرعي على مشروع تمديد النفوذ الحزبي والشخصي.

شعارات ظاهرها الإصلاح والمشاركة، وباطنها تكريس واقعٍ أرستقراطي جديد، تُفصَّل فيه الآليات والمؤسسات على مقاس الفئة المتنفذة، لا على أسس العدالة أو الشفافية، بل على مقاييس الولاء السياسي والاحتكار السلطوي.

وإن مضت البلاد في هذا الاتجاه، فإن الدولة الصومالية مهدّدة بأن تتحوّل إلى غلاف خارجي لتحالفات نخبوية ضيقة، تُعيد إنتاج الفشل بأسماء جديدة، وتُفرغ مؤسسات الدولة من مضامينها، وتُجهِض كل أمل في بناء مشروع وطني جامع ينهض بالبلاد والعباد.

إن الصومال لا يحتاج إلى مزيد من الاصطفافات المغلقة والانقسامات المصطنعة، بل إلى وقفة صادقة مع الله، وتصالح وطني يرتكز على التزام شرعه في تسيير شؤون الدولة، والإصلاح بين الفرقاء، ورفض العصبية بجميع صورها.

والصومال بحاجة إلى نهضة وطنية شاملة تُعيد الاعتبار للمواطنة المتساوية، وتكسر دوائر الاحتكار الأرستقراطية، وتفتح المجال أمام الكفاءات والضمائر الحية، لبناء دولة عصرية تقوم على أسس من العدل، والشفافية، والمساءلة، لا على الولاءات الضيقة، ولا على الصفقات السياسية العابرة.

وإلا فإن الاستمرار في هذا المسار المنحرف لن يفضي إلا إلى مزيد من الانقسام والتشرذم، وقد يؤدي في نهاية المطاف إلى تآكل مؤسسات الدولة من الداخل، في مسار انحداري منفعي ينذر بانهيار شامل يهدد وجود الدولة ذاتها، ويكاد يُخرجها من التاريخ والجغرافيا ككيان مستقل، ذي سيادة وقرار.

بقلم: علي أحمد محمد المقدشي

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى