نحن نعيش في زمن يتغير فيه كل شيء بسرعة مذهلة، كل يوم يولد افكار جديدة، أسئلة جديدة ، علوم واكتشافات جديدة، بينما بقى الخطاب الدعوي الإسلامي واقفا لايتحرك من مكانه منذ زمن ، الى متى سيكون الخطاب الدعوي جامدا لايواكب الواقع المعاصر، و الى متى ستكون لغته بعيدة عن الشباب، وإلى متى سيبقى الدعاة خائفين عن أسئلة الشباب، التي تدور حول الوجود، ومصداقية الدين، والمصير، والأسئلة الكونية الكبرى التي لم تعد ترفًا فكريًا في هذا الزمان، بل أصبحت همًّا داخليًا لدى كثير من الشباب، نحن كدعاة نُبذل كثيرًا من الجهد في التحذير من المحرمات والعقاب والنار فقط، بلغة ترهب الناس، حتى أصبح المسجد والدعوة – في نظر كثير من الناس – مكانًا للخوف والتقريع، لا ملجأً للطمأنينة والرحمة، لماذا لانهتم بأن نظهر الوجه الجميل اللطيف الرحيم للدين، اليست الدين هي التي تدعو الى التيسير وليس بالتعسير، الم يقل الله جل وعلا : ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾؟، ألى نرى ماحل بشبابنا اليوم ، يتركون الدين ويلجأون إلى الإلحاد ، هم ليسو اعداء للدين ، بل هم ضحايا لأسئلة أربكتهم، وشوّشت عقولهم، وفتحت أمامهم أبوابًا من الشك والتساؤل حول دينهم، لأجل مايشاهدون ويقرئون من مواقع التواصل الاجتماعي، ولم يجد هؤلاء من يناقشهم بعقلانية ورفق، ومن يعطي أجوبة منطقية تشفي عقولهم وقلوبهم.
وبدل أن نحتويهم، بدأنا نُهاجمهم، ونشتمهم، وندعو عليهم، ونصفهم بالمارقين والزنادقة و المنحرفين، مع اننا لم نسمح بأن نسمع مالديهم، ونقنعهم بدينهم بأدلة عقلية تتناسب مع اسئلتهم، لان ديننا ليست مجردة عن العقل والمنطق، بل هي دين تشجع إعمال العقل لفهم الدين والواقع، والدين لاتتعارض مع العقل، ومن حق المرء ان يسئل نفسه حول حقيقة الدين والمسائل الكونية ،هل هذا الدين من عند الله؟ هل كان محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم نبيا حقا؟ لماذا خلقنا؟ من اين بدء هذا الكون ؟ ما معنى الجنة والنار؟ كيف نفهم القضاء والقدر؟ ، كل هذا وأكثر من حقه ان يسأل لكي لايعيش المرء بشك مع دينه، وربما تقول هذه الأجوبة كلها موجودة في القرآن والسنة وهذا صحيح، ولكن السؤال، من يشك بصحة شيء هل يقبله كدليل ، من يشك بالدين أصلا هل هي حقيقة ام وهم، كيف تقنعه بدليل أخذت منه، اتقبل أنت كمسلم ان اقنعك بفكرة ، واستدل بنص في الإنجيل أو التوراة، طبعا لا ، اذا ماهي وظيفة الداعي؟، وظيفة الداعي ان يناقش ويجد أجوبة منطقية شافية تنور للشباب طريق الحق، برفق لا بعنف ووعيد ، فالدين دين عقل، الله جل وعلا لم يطلب منا أن نؤمن به إيمانًا أعمى، بل خاطب عقولنا، وسألنا أن ننظر ونتدبر ونتفكر. فقال {أفلا يعقلون؟} {أفلا يتدبرون؟} {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} كلها دعوات لإعمال العقل لا للقهر، وللتفكير لا للتلقين.
وظيفة الداعية اليوم ليست أن يُخيف الناس، ولا أن يُحاصرهم، ولا أن يكرر الخطب والمواعظ الجاهزة، بل أن يكون واعيا وعارفا لمايجري حوله، وان يكون مستمعًا جيّدًا يفهم أسئلة الشباب قبل أن يجيب، وان يكون مفكرًا متزنًا يزن الأمور بميزان العقل والنص معًا، وان يكون محاورًا صبورًا يشرح بلطف، ويُقنع بحجة، ويحتوي بصدق، وان يكون مربّيًا رحيمًا لا يُشوّه الدين، ولا يقطع الطريق أمام العائدين، فمن لم يُحسن الدعوة، فقد يُسيء إلى الدين وهو لا يدري.
الداعي الناجح لا يُشعر الناس أن الدين سجن، أو أن الله ينتظر زلّتهم ليعاقبهم، بل يُحدثهم عن ان الله غفور رحيم، وانه يقبل التوبة من عباده وانه يحب التائبين، حينما الشباب يتحدثون مع بعضهم، تلاحظ ان انطباعهم أو الصورة الذهنية الوحيد لديهم عن الدين والاسلام هو الخوف والعقاب والحرق والنار، وللأسف نحن كصوماليين يبدء العنف الديني من المدارس والكتاتيب، الضرب والسب والعتاب، وبعد ان يكبر الطفل قليلا يأتي إلى المسجد فيجد الخطيب يتحدث كل مرة عن العذاب والنار، وهو غاضب لايبتسم فكل مايعرف هذا الشاب عن الدين هو العنف فقط، حان الوقت لكي نغير هذا الأسلوب الدعوي.
لقد حان الوقت – بل تأخر الوقت – لأن نقف مع أنفسنا وقفة صادقة، حان الوقت لنُعيد النظر في هذا الأسلوب، لا من باب المجاراة، بل من باب الأمانة، فالدعوة التي تُبنى على التخويف وحده، تُنتج جيلًا مرعوبًا لا واثقًا، عاجزًا لا ناهضًا، تابعًا لا مفكرًا، أما الدعوة التي تُحسن الظن بالناس، وتُصغي لهم، وتجاوب على أسئلتهم دون خوف ولا احتقار، فهي التي تُعيد الثقة بالدين، إننا بحاجة إلى نقلة نوعية في الخطاب الدعوي ، من خطاب فوقي إلى خطاب إنساني، ومن التوبيخ إلى التربية، ومن التلقين إلى الحوار، ومن التكرار إلى التجديد، ومن السرد الممل إلى الفهم العميق.
فالدين أوسع من أن يُختزل في قائمة من المحرمات، وأرحب من أن يُقدّم بلغة العزلة والانغلاق، والداعية الحق ليس من يُجيد رفع الصوت، بل من يُجيد احتواء الحائر، وإنقاذ التائه، وترميم المنكسر، والدعوة ليست سلطة فوق الناس، بل حبٌّ في خدمتهم، وهذا وحده هو الذي يجعلها صادقة، مُلهِمة، ومستمرة.
لا يمكن الحديث عن تجديد الخطاب الدعوي دون الاعتراف أولًا بأنه هناك فجوة حقيقية بين الخطاب والمتلقي، وبين المنبر والواقع، وبين النصوص التي تُقال والحياة التي تُعاش، هذه الفجوة لم تأتِ من فراغ، بل هي نتيجة تراكمات، من أهمها : 1. جمود اللغة الدعوية، واعتمادها على قوالب وعظية قديمة لم تُحدّث منذ عقود، 2. الانفصال عن قضايا الإنسان اليومية، فالداعي يتحدث عن أحكام الفقه بينما المتلقي يسأل عن معنى وجوده، 3. الخوف من الأسئلة الفكرية الجادة، حيث يُوصم السائل بالتمرد أو ضعف الإيمان بدلًا من احتوائه بالحوار، 4. هيمنة الصوت الواحد، وغياب التعددية الفكرية داخل الخطاب الدعوي، وضعف التكوين الفلسفي والفكري للداعية، ما يجعله عاجزًا عن مواجهة تيارات الإلحاد، والعبثية، والنسبية الأخلاقية، وغير ذلك من التيارات التي تُشكّل قلقًا وجوديًا عند الشباب.
كل هذه الأسباب ساهمت في انكماش تأثير الدعوة، وتآكل مصداقيتها لدى جيلٍ كامل يشعر أنه “يُدان” أكثر مما يُفهَم، ويُبعَد أكثر مما يُحتوى.
إن تجديد الخطاب لا يعني تغيير الحقائق، بل تغيير الطريقة التي نُقدّم بها تلك الحقائق، وهذا التجديد لا يكون بمجرد “تبسيط المعلومة”، بل بتجديد أدوات التفكير، ومنهجية الطرح، وطريقة التعامل مع الإنسان ككائن له عقل، وإحساس.
ولعل من أهم معالم التجديد:1. تبنّي العقلانية الرشيدة لا تلك التي تضعف النصوص، ولا تلك التي تُغلق باب التفكير، بل طريقة وسطية بينهما تجعل العقل خادمًا أمينًا للوحي، 2. تطوير الخطاب من أسلوب الإلقاء إلى أسلوب الحوار ، 3. توسيع ثقافة الداعية، ليُصبح ملمًا بالفكر الإنساني، والفلسفة المعاصرة، وعلم النفس، والاجتماع، ومناهج التعليم، 4. الاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة: وتقديم الدين بلغة العصر، لا لغة الحنين فقط، 5. إعادة الاعتبار للجمال في الخطاب، فالدين ليست فقط حقًا، بل هي أيضًا شيء جميل. والناس ينجذبون لما هو جميل في الطرح، واللغة، والأخلاق، والسلوك.
وقبل أن يُساء فهم كلامي، أقول بوضوح،انا لستُ علمانيًا، ولا ليبراليًا، ولا أدعو إلى التمييع أو التخلي عن ثوابت الدين، بل إن كل ما اطُرحه في هذا المقال نابع من حرص صادق على أن تبقى الدعوة حيّة، مؤثرة، راقية، صادقة في تعبيرها عن روح هذا الدين العظيم، أنا لا أطلب تغيير الدين، بل تجديد طريقته في الوصول إلى القلوب والعقول،
ولا أدعو إلى إسكات النصوص، بل إلى إحياءها بلغة يفهمها الناس، ويحبّون بها ربهم، ويزدادون بها إيمانًا، لا بعدًا.
أرجو من الله لي ولكم التوفيق والسداد،
الكاتب : عبدالله محمد حسن