ليس أقسى على النفس من العزلة التي يصنعها الوعي، إلا أن تمضي وحدك في طريق يتكدس فيه الآخرون على الجهة المعاكسة. أن تقول “لا” في زمن تفرش فيه كل “نعم” بورق أخضر، وتبارك بعيون دامعة من الخدر.
لم أمضغ القات قط. لا زهدا ولا مباهاة. بل لأنني شعرت، منذ البدايات، أن هذه النبتة تطيل الجلسات وتقصر الأعمار، وتمنحك صحبة طويلة على حساب العمر القصير.
كنت يومها مجندا في الجيش، غضا في الوعي، حين اقترب مني ضابط صف من الكتيبة في استراحة الغروب، وفي يده حزمة قات يقلبها كما يقلب البعض كتابا مقدسا. قال بنبرة لا تخلو من ود أبوة ماكرة:
“خذ، هذه فيها غصن الملك… تعرفه؟ لا يرد.”
اعتذرت بأدب. لم أكن أملك غير الرفض المهذب. ابتسم، كأنه فهم أن الصمت أبلغ من الشرح، ثم ذهب واشترى لي زجاجة كوكاكولا، وقدمها لي كمن يعوض عن الغصن الملكي برشفة من مشروب غازي. ثم أضاف بكرم نادر: “الليلة؟ اذهب إلى السينما.”
ولأنه كان يعرف أن القات يمنح صاحبه سهرا لا يرحم، كان كلما اجتمعنا في نوبة حراسة، تطوع أن يأخذ نوبتي عني، ويقول مازحا:
“اذهب أنت… أنا والقات لا ننام.”
كان الرجل أكثر نبلا من نبتته، وأكثر رحمة من طقسه، فتركت له السهر، وأخذت قسطا من الراحة.
القات – زمان – لم يكن مجرد نبتة تمضغ، بل مؤسسة اجتماعية متكاملة، لها تقاليدها وطقوسها وسجادتها وزجاجتها وموعدها المقدس. تقسم من أجله الساعات، وتغلق الأسواق، وتعلق الاجتماعات. ومن لم يخزن، نظر إليه بريبة: “مالك؟ متضايق؟ مريض؟ أم أنك تدعي التعالي؟” الزمن تغير، وفقدت النبتة طقوسها وهيبتها. لم تعد حكرا على موظفي الدولة وتجار القات وشيوخ العشائر، بل بات يمضغها الكل: ماسح الأحذية، سائق عربة الحمار، الكمساري، السباك، وحتى الطفل الذي بالكاد يجيد المضغ. امتدت إلى كل فم، وتسربت إلى كل جيب، حتى غدت عادة عارية من الطقس… باهتة من الهيبة.
لكن ما سمي يوما “غصن الملك”، تبين أنه غصن الاستنزاف يستنزف المال، ويبتلع الوقت، ويخدر الحلم، يثقل اللسان بثرثرة لا تنتهي، ويثقل العقل بسكون لا يطاق ويتسلل من الشفة إلى المزاج، ومن المزاج إلى الإرادة، حتى تصبح الحياة مجرد انتظار لجلسة جديدة.
أما الطب، فلم يجامله قط. القات يرفع ضغط الدم، ينهك القلب، يربك الذاكرة، يبعثر النوم، ويزرع القلق كأنه ثمرة يومية. مادة محفزة تشبه الحياة، لكن دون حياة.
لم أكن واعظا ولا مرشدا، كنت فقط شابا يراقب. يرى كيف ينطفئ الحماس، وتبهت العيون، ويخفت وهج الصباح. شباب كانوا يمشون بثقة، ثم جلسوا. كانوا يخططون، ثم راحوا يمضغون.
واليوم، حين أسترجع تلك اللحظة الأولى، أدرك أنني لم أنج من شيء، بل وفرت على نفسي عناء الغرق. بعض الأبواب حين تغلقها مبكرا، لا تمنع المصير بل تغيره.
القات لم يجرم في معظم القوانين، لكنه ارتكب – بصمت – جريمة بحق الوعي والوقت والطموح. نهش جيلا كاملا، وألبسه عباءة السهر الخامل، والتسويف الأبدي، والحوار الفارغ.
ولمن يسأل: “كيف نجوت؟” أقول: لم أكن ناجيا بل اخترت ألا أختبر. فالحرية الحقيقية تبدأ من قرار صغير: أن تترك الغصن حتى لو قيل لك إنه للملوك.
إلى اللقاء.