حوار مع ثيوصوفي تحت التمرين

مقهى “إيطاليا”، ملاذي بفضل قهوته الممتازة. كنت جالسا في ركني المعتاد حين اقترب شاب من رواد المكان، أعرفه معرفة سطحية لا تتجاوز التحية العابرة. غير انه في ذلك اليوم، جلس إلى طاولتي دون استئذان، كأن في صدره حديثا مؤجلا يبحث عن مستمع. ودار بيننا هذا الحديث الشائق:

– قال لي، ما معناه: إن الأرواح لا تموت بل تنتقل، وإن الخير والشر ليسا أوامر تأتي من خارج، بل طاقة ننفقها فتعود إلينا. وإن الأنبياء لم يأتوا بدين، بل بحكمة ضاعت حين تحولت إلى طقوس. وإن الخلاص لا يمنح، بل يكتسب حين يعرف المرء من يكون. وإننا، حين نتحرر من الخوف والرغبة، نبدأ رحلة الصعود إلى النور.

– قلت له: لكن ما تقوله ليس تأملا عابرا، بل عقيدة. ليست خواطر، بل خريطة. وهذه العبارات التي تنثرها كأنها وحي، قد عرفها أناس من قبلك وأطلقوا عليها اسما.

– سكت لحظة، وبدا عليه شيء من الدهشة، ثم قال: لا أعرف اسما لما أؤمن به، كل ما أعلمه انني وجدت هذه الأفكار في داخلي.

– قلت له: إذن، انت ثيوصوفي. وإن لم تسمع بهذه الكلمة، فأنت تؤمن بوحدة الأديان، وبالتناسخ، وبالوعي الأعلى، وبأن الإنسان إذا سكن قلبه وجد الإله.

– ارتبك قليلا، ثم أدرك ان ما يحمله ليس جديدا، بل نسخة أخرى من موروث قديم.

– أشفقت عليه، فقد كان يردد ما أُملي عليه دون أن يعرف له اسما أو سندا أو معنى.

لم يكن غبيا ولا ساذجا، بل صادقا في حيرته. وحين يكون الإنسان صادقا في حيرته، فإن الشفقة عليه لا تكون ازدراء، بل اعترافا ضمنيا بأننا جميعا مررنا من هناك، من تلك اللحظة التي نظن فيها اننا نعرف، ثم نكتشف اننا نعيد ما قيل لنا دون أن ندري.

نهض بعدها بهدوء، كمن أنهى ما جاء من أجله. صافحني كما لو كان يودع لحظة من حياته، ثم مضى. لم أتبعه بنظري، فقط نظرت إلى فنجاني الذي برد، وقلت للنادل:

– جرسون… فنجان آخر، من غير سكر، من فضلك.

ورحت أراقب المقهى من جديد، فرأيت شبانا يطلبون الماكياتو في الصباح الباكر، يرفعونه إلى أفواههم كأنهم يحتفون بالاكتشاف، رغم أن ذلك مخالف للأصول. ففي الصباح، يشرب الإيطاليون الكابوتشينو، أو يكتفون بإسبريسو سريع على عتبة النهار. أما الماكياتو، فيطلب بعد الظهيرة، حين تخف الحركة ويحين وقت استراحة قصيرة، لا تبالغ في الحليب ولا تجافي المرارة.

أعذر هؤلاء الأولاد. فقد عرفوا أسماء القهوة الإيطالية من المقاطع والمقاهي، دون أن يدركوا الأصول التي تضبط توقيت كل فنجان. ظنوا أن التسمية تكفي، وأن الطعم في النطق لا في اللحظة المناسبة. وهكذا تؤخذ الأشياء أحيانا من غير سياقها، فتفقد معناها، وتتحول إلى عادة تمارس لا متعة تفهم.

لكن لا بأس. فالمقاهي، مثل الأرواح، تتسع للطارئين، وتسامح المتحذلقين.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى