اختلال العدالة الاجتماعية ودوره في انتشار التطرف في الصومال: قراءة تحليلية نقدية

تُعدّ العدالة الاجتماعية أحد الأعمدة الراسخة في بناء الدول المستقرة والمجتمعات المتماسكة. وهي معيار أساسي لتوزيع الحقوق والفرص والواجبات بين المواطنين، بما يضمن إشراك الجميع في التنمية دون تمييز عرقي أو قبلي أو مناطقي. وفي السياق الصومالي، حيث لا تزال الدولة تعاني من هشاشة بنيوية منذ انهيار مؤسساتها في أوائل التسعينيات، يشكّل غياب العدالة الاجتماعية مدخلًا خطيرًا لإنتاج التهميش والتفاوت الاجتماعي، وما يترتب عليه من ردود فعل قد تتخذ أشكالًا متطرفة ومهددة للسلم الأهلي.

اختلال العدالة بين المحاصصة القبلية والتهميش المؤسسي

لا يخفى أن نظام المحاصصة القَبَلية هو أبرز تجليات اختلال العدالة في الصومال، حيث تُوزع المناصب والفرص وفق قاعدة “الأقرب فالأقرب”، لا حسب الكفاءة. وقد أصبحت الوظيفة العامة أداة لمكافأة الولاء العشائري، في مشهد لا يخجل فيه المسؤول من التصريح أمام الكاميرات أو الجماهير بأن الأولوية في التوظيف والعقود لأقربائه وأبنائه. وتحولت مؤسسات الدولة إلى ما يشبه الإرث العائلي،تُوزَّع الامتيازات بطريقة تعزز احتكار النخبة للموارد والفرص، بينما تُهمَّش القواعد الشعبية، مما يعمق الفوارق الاجتماعية ويكرس اختلال العدالة السياسية. كما تُمنح عقود المشاريع الكبرى للنافذين المحسوبين على الدوائر الحاكمة أو لمن تجمعهم صلات قرابة بصناع القرار، مما يعزز هيمنة المصالح الخاصة ويُقصي الكفاءات.”.

وقد أسهم هذا الواقع في تهميش قطاعات واسعة من النخب والكفاءات، خاصة”الشرائح الضعيفة التأثير” حيث تفتقر إلى التنمية والخدمات الأساسية وتُهمل البنية التحتية وتُهمَّش احتياجات السكان. في مجالات الخدمات وفرص العمل، مما يُكرّس التفاوت الطبقي بين المواطنين، ويُنتج تصنيفًا غير معلن لمواطنين من الدرجة الأولى وآخرين من الدرجة الثانية، في انتهاك صريح لمبدأ المساواة والعدالة الوطنية. ويُولّد هذا التهميش شعورًا بالاغتراب الوطني لدى فئات واسعة من الشباب، الذين لا يجدون ما يربطهم بمؤسسات الدولة ولا ما يُحفّز ولاءهم لها.،ولا يرون في الدولة سوى سلطة جائرة لا تعبأ بمصيرهم أو طموحاتهم.

التهميش بيئة خصبة للتطرف واستغلال المتشددين.

في ظل هذا التهميش المنهجي، برزت الجماعات المتطرفة – وعلى رأسها “حركة الشباب”المتطرفة –كقوة بديلة تقدم نفسها للمهمشين بوصفها كيانًا لتحقيق الإنصاف البديل. تعِدهم بالكرامة والإنصاف الذي حُرموا منه في ظل الدولة. وهي كلمة حق يراد بها الباطل.

وتفيد تقارير ميدانية عديدة – منها ما صدر عن مركز هيرال للأبحاث – بأن نسبة كبيرة من الملتحقين بالجماعات المسلحة هم من أبناء الأقاليم المُقصاة، الذين لا يحملون بالضرورة دافعًا أيديولوجيًا، بل انضموا بدافع الانتقام، أو بحثًا عن مكانة مفقودة، أو أملًا في الانتماء لكيان يعترف بهم. وهكذا تحوّل التهميش إلى بوابة للتجنيد، وأصبح غياب العدالة الاجتماعية أحد المغذيات الرئيسة للتطرف.

غياب رؤية إصلاحية واقعية في الأفق القريب

ورغم تفاقم مظاهر التهميش والانقسام، إلا أن الأفق السياسي في الصومال لا يوحي بوجود إرادة حقيقية لإصلاح جذري. فالنخب الحاكمة تواصل إعادة إنتاج ذات المنظومة القائمة على المحاصصة والتوريث السياسي، دون أي اهتمام بآليات الرقابة المستقلة أو بتطوير مؤسسات حوكمة قائمة على العدالة والمساءلة. بل إن الخطاب الرسمي – سواء الديني أو الإعلامي – يفتقر إلى تناول جذور المشكلة، ويكتفي بإدانة الظواهر دون الغوص في أسبابها. ومن ثم، فإن غياب هذه الرؤية الإصلاحية يُكرّس الإقصاء، ويفاقم الإحساس بالظلم، ويمنح الجماعات المتطرفة مزيدًا من الشرعية لدى الفئات المحبطة.

 نقد الواقع واستشراف آفاق الحل

لا يمكن بناء دولة مستقرة في ظل مؤسسات تختزل المواطنة في القرب القَبَلي، ولا في ظل تهميش للطاقات والكفاءات. فاختلال العدالة ليس خللًا إداريًا عابرًا، بل هو تشقق عميق في بنية الدولة، ومصدر رئيسي لزعزعة شرعيتها أمام المواطنين. واستمرار هذا النمط القائم على “ماذا استفدت؟” و”ماذا نال قريبي؟” بدلًا من “ماذا قدّمت للوطن؟”، يعني استمرار دورة الفشل والانقسام والانهيار.

ولمعالجة هذا الواقع، فإن من الضروري:

  • الانتقال من منطق المحاصصة إلى مبدأ الكفاءة في التوظيف والتمثيل السياسي.
  • تمكين الأقاليم المهمشة اقتصاديًا وتنمويًا وعدليًا.
  • تأسيس هيئة وطنية مستقلة ترصد مؤشرات العدالة الاجتماعية وتُحاسب من يخرقها.
  • تفعيل خطاب ديني يعيد مركزية قيمة “العدل” في بناء الدولة والمجتمع.
  • إشراك الشباب المحرومين في عمليات الحوار الوطني وصنع القرار.

ويرى الكاتب أن العدالة الاجتماعية ليست شعارًا نظريًا، بل هي صمّام أمان للدولة، وميزان يحكم العلاقة بين المواطن ومؤسسات الحكم. وإن أي مشروع وطني لم يُبنَ على أساس العدل، سيظل هشًا، وسهل الانهيار أمام طوفان التطرف والتفكك. فلا يمكن مواجهة فكر متطرف بمنظومة مختلة تُنتجه، بل بإصلاح شامل يُعيد للمواطن شعوره بالكرامة والانتماء. ومن هنا، فإن إصلاح اختلال العدالة هو المدخل الحقيقي لاستقرار الصومال واستعادة دولته من براثن الانقسام.

باحث ومحلل سياسي في قضايا القرن الإفريقي

Abdulkadirali2026@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى