كَتَبَ ليربك

ما كنت أظن أن قراءة رواية يمكن أن تشبه صعود جبل، حتى قرأت اسم الوردة لأمبرتو إيكو. روايةٌ طالما بدت لي ثقيلة بحجمها وشهرتها، ومع أنني لا أحب التورط في الأعمال التي تُكثر حولها الضوضاء، فإن الفضول هذه المرة سبق الحذر. قرأتها، ثم أعدت قراءتها، لا لأنني لم أفهم، بل لأن الفهم فيها لا ينتهي.

إيكو لا يكتب لتسلية أحد. لا يغريك بعنوان لامع، ولا بشخصية وسيمة. إنه ينتظر القارئ ليأتي إليه كما يأتي الطالب إلى أستاذه. لا تفتح رواياته لتعرف من القاتل، بل لتسأل: ما معنى القتل؟ وما الفرق بين الجريمة كحدث، والجريمة كفكرة؟

حين كتبت عن دان براون، قلت إنه يكتب المؤامرة كمن يفتح بابا خلفيا لمتحف. أما إيكو، فيدخل من الباب الرئيسي، لكنه لا يكتفي بتأمل اللوحات، بل يسأل عن لون الجدار، وعن طبقة الغبار المتراكمة على الإطار.

اسم الوردة ليست رواية بوليسية كما يُخيل للبعض، بل رواية عن اللغة والدين، عن المكتبات التي تحترق، والمخطوطات التي تخشاها السلطة أكثر من السيوف، والكتب التي قد يغير غيابها مجرى التاريخ.

لكنها، قبل كل شيء، رواية عن الضحك. نعم، الضحك. هذا الفعل البسيط الذي رآه بعض الرهبان تهديدا للإيمان، بدعة تفسد رهبة المقدس، ودليلا على حرية لا مكان لها في صوامع الخوف. الضحك كخطر، كتمرد، ككفر ناعم. وما كنت أتصور أن الضحك يمكن أن يخيف أحدا، ولا خطر ببالي أن كتابا يعلم الناس كيف يضحكون.

إيكو لم يكن روائيا فحسب، بل فيلسوفا يتخفى في معطف السرد. كان مفكرا ينسج رؤيته للعالم بخيوط الحكاية، ويختبر قدرة الأدب على حمل كل شيء، من المنطق إلى اللاهوت، من علم العلامات إلى تاريخ الكنيسة. وفي كل مرة أقرأ له، أشعر أنني أدخل متحفا لا يسمح لي فيه بلمس شيء، لكن كل شيء فيه يلمسني.

في إحدى مقابلاته، قال إيكو إنه لا يكتب للقارئ الكسول، وإن الرواية، لكي تكون عظيمة، يجب أن تفتح أبوابا لا أن تغلقها. وقد كان صادقا تماما في هذا. فرواياته لا تُقرأ مرة واحدة، ولا تُختصر في فيلم. حتى حين تحولت اسم الوردة إلى عمل سينمائي، ظل الفرق شاسعا: فالفيلم شاهد على الجريمة، أما الرواية فهي شاهد على الإنسان.

في العالم العربي، لا يبدو إيكو واسع الانتشار مثل دان براون، لكنه حاضر في الزوايا الهادئة، في مكتبات أولئك القراء الذين لا يرضيهم التشويق وحده، بل يبحثون عما بعد الكلمة، وما قبل الفكرة. تُقرأ رواياته بصمت، وتُغلق بتفكير، ولا أحد يعود منها كما دخلها.

وحين سُئل يوما لماذا يكتب، أجاب: “لكي أقول ما لا يُقال في الصحف”.

ولهذا تحديدا، نحتاج إلى قراءة أمبرتو إيكو، لنزداد وعيا بمحدودية وعينا.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى