في فيلم لا تقاس عظمته بعدد الطلقات، بل بعدد الثواني التي توقف فيها الزمن، يلتقي تشارلز برونسون وهنري فوندا في صمت يصخب بالمعنى. “الصمت الناطق” ليس مجرد عنوان، بل حالة سينمائية نادرة، صنعها سيرجيو ليوني من موسيقى وغبار ونظرات لا ترحم.
في لحظة نادرة من لحظات السينما الكبرى، لم يحتج الزمن إلى كلمات، ولم تتكلم الصورة بلغة الحوار. تحول الصمت إلى بيان، وتحولت الطلقة إلى جملة، والغبار المتصاعد من اقدام الخيول إلى ستارة لمشهد لا يمحى من الذاكرة. هناك، في قلب الصحراء الإيطالية، تلاقت ظلال اثنين من أعمدة الشاشة: تشارلز برونسون وهنري فوندا، في ملحمة سيرجيو ليوني الخالدة Once Upon a Time in the West.
كان برونسون أشبه بطيف خرج من أعماق الأسطورة. لا يطلب الكلام ولا يحتاجه. وجهه المحفور بالتجاعيد والتجارب كان مرآة لقصص الظلم والعزلة والثأر الطويل. لم يحمل اسما، بل لقبا: “رجل الهارمونيكا”. آلة صغيرة تعزف لحنا واحدا، يتكرر كلما اقتربت المواجهة، كأنها إنذار بقدوم قدر لا مفر منه. لم يكن بطلا بالمفهوم التقليدي، بل شبح عدالة يمشي على تراب الغدر، يبحث عن الحساب.
أما هنري فوندا، فكانت دهشته أعظم من أن توصف. لعقود كان رمزا للضمير الامريكي، للخير الوقور، للعدل المتزن. لكن في هذا الفيلم، تنكر للضياء وارتدى عباءة الشر. جسد دور فرانك ببرودة قاتل وابتسامة رجل نبيل يخفي خنجره تحت الطاولة. لم تكن مجرد خيانة لتاريخه الفني، بل خيانة مقصودة لصورة الفضيلة ذاتها. كانت تلك اللحظة التي عرف فيها الجمهور أن للشر أيضا وجوها محبوبة.
هذا اللقاء لم يكتب في هوليوود، بل رسم بريشة مخرج إيطالي فريد. سيرجيو ليوني، صانع الأساطير، لم يكن مهتما فقط بالرصاص والمطاردات، بل بالملاحم الإنسانية التي تتخفى خلف غبار المعارك. في Once Upon a Time in the West، قدم تراجيديا بصرية تستبدل الحوار بالصمت، والدراما باللقطة الطويلة، والبطولة بالعزف المنفرد على آلة القدر.
في وسط هذا المشهد الذكوري الموحش، وقفت كلوديا كاردينالي كأنها ماء يسري بين صخور الصحراء. ليست مجرد امرأة جميلة، بل رمز للمدنية، للمستقبل، للحلم الذي ينبت من رحم الدم. أدت دور جيل بعذوبة ممزوجة بالقوة، امرأة تحاول أن تبني مدينة في زمن يهدم كل شيء، في لحظة يصير فيها الحلم مشروعا مقاوما في وجه الفوضى.
لكن الروح الحقيقية للفيلم لم تكن مرئية، بل مسموعة. انيو موريكوني، العبقري الموسيقي، لم يكتب الحانا بل طلاسم. لكل شخصية سمفونية، ولكل صمت نغمة. كانت الهارمونيكا امتدادا لروح برونسون، والسكوت الحاد ظلا دائما لفوندا، والحنين الرفيق الوفي لكاردينالي. لم تكن الموسيقى خلفية، بل بطلا ثالثا، لا يقل حضورا عن الممثلين.
مضت السنوات. ترجل برونسون، وغاب فوندا، وانطفأ عصر الويسترن. لكن المشهد لا يزال حيا، كأن الزمن توقف هناك. لا أحد قال شيئا، لكن الكل تكلم. لأن في بعض اللقاءات، يكون الصمت أبلغ من كل الحوارات، وتكون الهارمونيكا أصدق من ألف مونولوج.
اقول قولي هذا، وأرفع يديّ بالدعاء للعم Xasan Arreey، مدير سينما بنادر، الذي كان يسمح لي بالدخول مجانا حين يعجز جيبي عن ثمن التذكرة. رحم الله قلبه، الذي فهم أن بعض الأطفال لا يبحثون عن مقعد… بل عن حلم
إلى اللقاء