الفداء في زمن المقصلة

البعض يراه تضحية عظيمة بينما يعتبره آخرون جنونا لا طائل منه، لكن الجميع يتفق على أنه فعل نادر لا يتكرر فمن الخارج قد يبدو الفداء مجرد قرار لحظي، وخطوة الى الأمام ونهاية حتمية، لكنه في الحقيقة أكثر تعقيدا من ذلك إذ لا أحد يختاره بسهولة ولا أحد يفهمه حقا الا بعد فوات الأوان.

كيف يقاس الفداء؟ غالبا بلحظته الأخيرة ، لكنه يتشكل قبل ذلك بكثير تماما كما لا تقاس الرواية بآخر صفحاتها، بل بالرحلة التي قادتها الى تلك النهاية. لقد مرت عقود على قراءتي قصة مدينتين ومع ذلك لا يزال سيدني كارتون حاضرا في ذاكرتي بل ان صورته تزداد وضوحا كلما عاد الزمن ليضيف اليها بعدا جديدا حين نطق بكلماته الاخيرة “إنها أجمل نهاية أكثر مما حلمت به في حياتي” لم يكن يودع الحياة بقدر ما كان يكتشف معناها للمرة الأولى!

لا يمكن فصل البطل عن زمنه، فالثورة الفرنسية لم تكن مجرد إطار زمني للأحداث ، بل كانت قلب الرواية النابض تماما كما كان سيدني كارتون روحها الحية ، واليوم وبعد قرنين من الزمن تغيرت أشياء كثيرة الا الأسئلة التي طرحتها قصة مدينتين فما زالت الصراعات تتارجح بين العدل والانتقام وما زال الفداء لغزا محيرا فهل هو تضحية خالصة أم مجرد هروب؟ شجاعة أم محاولة يائسة لإعادة كتابة المصير؟

لم تعد البطولات الفردية تروى كما كانت ولم تعد المقاصل تنصب في الساحات ، لكن الدراما الإنسانية بقيت على حالها وإن تغيرت أشكالها اليوم لكل عصر أبطاله ولكل زمن قصصه فبينما كان الأدب في الماضي يدور حول أسئلة الوجود الكبرى أصبحت الصدارة الآن لحكايات الفضائح والجرائم حيث يبحث الجميع عن الشهرة بأي ثمن.

ومع ذلك هناك قصص تبقى. ليست مجرد سطور تقرأ، بل مرايا تعكس وجوها كثيرة، وأسئلة لا إجابة نهائية لها. سيدني كارتون لم يكن أول من أختار الفداء، ولن يكون الأخير. يبقى إسمه شاهدا على لحظة صافية، لحظة واحدة فقط، كان فيها أكثر حياة من أي وقت مضى.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى