رحلتي مع القراءة: من الفلسفة إلى الأدب (2)

بدأت علاقتي بالفلسفة بدافع فضول جامح ، ورغبة عارمة في فك طلاسم الوجود ، وسبر أغوار الحياة. اخترت أن أبدأ الرحلة من أعماق الفكر الفلسفي فقرأت كتبا عن الوجودية والميتافيزيقيا. كان “هكذا تكلم زرادشت” لنيتشه أحد المحطات التي أثرت فيّ بعمق رغم غموضه الذي تجاوز إدراكي آنذاك. كذلك غرقت في كتاب “العالم إرادة وتمثلا” لشوبنهاور الذي حملني إلى عوالم التشاؤم الفلسفي. أما أعمال سارتر وكيركغارد فقد كانت نوافذ مفتوحة على الحيرة الوجودية مما زاد من تساؤلاتي وعجزي عن فك شيفرة تلك الأفكار العملاقة.

لكنني ومع كل تلك القراءات وجدت نفسي غارقا في دوامة من التداخل والحيرة غير قادر على احتواء تلك الأفكار التي بدت لي أكبر من سني وتجربتي. عندها جاءني أستاذي محمد موسى أبو جبل بنصيحة غيرت مسار رحلتي أن أترك الفلسفة مؤقتا وأتوجه إلى الأدب حيث يمكنني العثور على حياة نابضة بالفهم والخيال تناسب طبيعتي وعمري آنذاك.

ومع ذلك لا أنكر أن وازعا دينيا كان له أثر كبير في منعي من الاسترسال في تلك القراءات الفلسفية خصوصا تلك التي بدت لي متعارضة مع يقيني الروحي. كنت أشعر أحيانا بأن الغوص العميق في تلك الأفكار قد يتركني في حالة من الضياع أكثر من الفهم. لذلك قررت أن أبحث عن طرق أخرى للمعرفة تلبي شغفي دون أن تهدد استقراري الروحي.

عندما أغلقت كتب الفلسفة فتحت أبواب الأدب وكان ذلك بمثابة اكتشاف عالم آخر أضاء جوانب نفسي وشكل رؤيتي للحياة. غدوت عاشقا للروايات والمسرحيات ورافقتني أعمال أدباء عرب وعالميين كانوا كالأصدقاء الذين يروون لي قصصهم كل ليلة ملهمين روحي ومرشدين خطواتي.

نجيب محفوظ ذلك العملاق كان الأقرب إلى قلبي. في ثلاثيته العظيمة و”زقاق المدق” وجدت صورا حية للنفس الإنسانية مكتوبة بحساسية وبراعة لا مثيل لهما. يوسف إدريس بسرده المذهل علمني كيف يمكن للحظة عابرة أن تحمل أبعادا إنسانية عميقة وأن تفاصيل الحياة اليومية يمكن أن تتحول إلى أدب خالد.

وعندما عبرت إلى الأدب العالمي كانت أعمال فيكتور هوجو بوابة إلى العظمة الإنسانية. “البؤساء” لم تكن مجرد رواية بل ملحمة إنسانية ملأى بالألم والأمل. تولستوي في “الحرب والسلام” و”آنا كارنينا” قادني إلى أعماق النفس البشرية حيث الحرب والحب والبحث عن المعنى.

أما ديكنز فكان سيد الحكايات التي تلامس القلوب. “أوليفر تويست” و”قصة مدينتين” جعلا من معاناة الإنسان لوحة فنية حية. ومع دوستويفسكي كان الأمر مختلفا لم أقرأ رواياته بل عشتها. “الجريمة والعقاب” و”الإخوة كارامازوف” حملتاني إلى عوالم معقدة من الصراع الداخلي.

وفي الأدب الحديث ألبير كامو بأعماله الوجودية مثل “الغريب” جعلني أفكر في معنى الحياة بكل بساطتها وتعقيدها. غابرييل غارسيا ماركيز برائعته “مائة عام من العزلة” و ماريو فارغاس يوسا في “حفلة التيس” أدهشني بقدرته على المزج بين السياسة والإنسانية برؤية أدبية شديدة البراعة.

مع هؤلاء العمالقة وفي رفقتهم شعرت أن الأدب لم يكن مجرد كلمات على الورق بل كان مرآة تعكس أعماق النفس البشرية وتجعل العالم مكانا أكثر وضوحا وألفة.

لهذا أقول لعشاق القراءة ابدأوا بالكلاسيكيات فهي ليست مجرد إرث ثقافي بل مفاتيح تفتح أبوابا لفهم الإنسان والعالم. ديكنز، تولستوي، دوستويفسكي،  وهوجو وغيرهم سيأخذونكم في رحلات لا تنسى. لكن لا تستعجلوا الأدب العظيم يحتاج إلى الوقت المناسب. إذا شعرت أن كتابا ما يثقل كاهلك ضعْه جانبا وعد إليه لاحقا.

لا تلهثوا خلف الكم الكتب العظيمة تحتاج إلى تأمل ووقت يمنح لها كي تفتح أسرارها. والأهم شاركوا ما تقرأونه فالحوار يجعل التجربة أغنى وأعمق.

لمن يسعى للتسلية والمرح هناك أعمال تجمع بين المتعة والمعنى. “أرض النفاق” ليوسف السباعي تحمل نقدا لاذعا في قالب كوميدي. “البوسطجي” ليحيى حقي رواية قصيرة لكنها شديدة التأثير. أما “الغريب” لكامو فهي نص عميق في بساطته. وللخيال الساحر لا شيء يضاهي “مائة عام من العزلة” لماركيز. وإذا أردتم الابتسامة مع مسحة من الحلم جربوا “حلم ليلة صيف” لشكسبير.

القراءة ليست مجرد وسيلة لاكتساب المعرفة بل هي رحلة لاكتشاف الذات والعالم. هي نافذة تفتح على المجهول وتجعل المألوف جديدا في كل مرة. ورحلتي مع الكتب مستمرة كما آمل أن تكون رحلاتكم مليئة بالشغف والإلهام.

إلى لقاء

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى