بعد سقوط الأسد: دمشق تعود لأهلها والحقائق تكشف الوجوه المتلونة

محمد بن الحسن – مقديشو

في ليلة تشرق فيها دمشق بحريتها، تعود العاصمة التي لطالما كانت منارة التاريخ إلى أحضان أبنائها الحقيقيين، أحفاد خالد بن الوليد، وأحفاد أبي عبيدة بن الجراح. ها هي دمشق التي أسس فيها معاوية حكم العدل، والتي رفع فيها الوليد والمنصور رايات الحضارة، تعود لتزيح عن كاهلها عبء الطغيان الذي جثم فوقها عقوداً.

دمشق ليست دمشق من نصبوا تماثيلهم على ميادينها وهم يجهلون تاريخها، بل هي دمشق ابن تيمية الذي نادى بالحق، ودمشق ابن القيم الذي أضاء العقول، ودمشق النووي والعز بن عبد السلام الذين غرسوا فيها علوم الدين والحكمة. هي ليست دمشق من هتفوا باسم الأسد، بل دمشق التي ترفض أن تكون مرتعاً لسلالة واحدة من الظلم.

اليوم، ساحة الأمويين، حيث كانت الأصوات تُكتم والخطوات تُراقب، تعود إلى ضجيج الحرية وصخب الانتصار. أولئك الذين ظنوا أن دمشق ستبقى رهينة قبضة الأسد لم يدركوا أن الشام تنفض الطغاة كما تنفض الرياح الغبار عن جدرانها. أيّها الأسد، دمشق لا تليق بك، فأنت غريب عنها وعن أهلها؛ دمشق هي لرجالها الأحرار الذين يتنفسون مجدها، لا لمن حاولوا استبدال زيتها بزيفهم.

فرحة التحرير اليوم تزلزل أنصار الأسد، أولئك الذين كانوا يطوفون حول صورته أكثر مما يُصلّون لله. هل سمعتم؟ الأسد قد أُخرج من عرينه، لكن ليس كملك يحظى بالإجلال، بل كمهزوم يتخفى في ظلال هزيمته. دمشق احتفلت، وقلوب أهل السنة فيها ارتفعت بالدعاء والشكر، فقد عادوا إلى حضن أمّهم الكبرى، دمشق التي ستظل، رغم كل شيء، شامخةً كقاسيون، وناصعةً كنهر بردى.

عملية طوفان الأقصى: مسمار في نعش الحلفاء المزيفين

لقد كان سقوط الأسد ونظامه النصيري ممهداً بأحداث تتجاوز حدود الشام، وتاريخاً أثقل كاهلهم حتى لحظة السقوط. من بين هذه المسهلات العظيمة جاءت عملية طوفان الأقصى لتكشف حقيقة من ادّعوا زوراً وبهتاناً أنهم حماة القدس وقضيتها. إيران، التي كانت تزعم أنها تدافع عن المظلومين، وحزب الله، الذي اختبأ خلف شعارات المقاومة، أظهرت الأيام ضعفهما، ليس فقط في ساحات القتال، بل في معركة الأخلاق والمبادئ.

أي مقاومة يدّعونها وهم يساندون الأسد، ذاك الذي امتلأت سجونه بالفلسطينيين؟ أو ليس من المفارقة أن يكون قاسم سليماني، صاحب العبارة الشهيرة “نحرر القدس”، هو نفسه من قتل اللاجئين الفلسطينيين وهم يفرّون من جحيم البراميل المتفجرة؟ أما حسن نصر الله، ذاك الذي زعم أن طريق القدس يمر بالقلمون وحمص، فقد ملأ هذا الطريق بجثث الأبرياء، مسلمين وفلسطينيين على حد سواء. لقد سقطت الأقنعة، وتبين أن شعاراتهم لم تكن إلا تجارة رخيصة بثمن الخيانة.

حين انطلقت عملية طوفان الأقصى، انكشفت عورات إيران وحزب الله؛ أصبحوا أضعف من أن يحموا أنفسهم، ناهيك عن أن ينقذوا حليفهم الأسد. كانت معاركهم مع أنفسهم أكبر وأشد، فهم اليوم يعانون من نزيف داخلي لا يُداوى، وأزمات سياسية واقتصادية مزّقت أوصال مشروعهم الوهمي.

ولم تكن روسيا بعيدة عن هذا التشتت. فالكرملين، المنشغل بتبعات حربه في أوكرانيا، وجد نفسه في مواجهة مع حسابات جديدة لم تكن تسمح له بمواصلة التورط في الدفاع عن نظامٍ جيشه يهرب من ساحات المعركة، كما صرّح بذلك مسؤولوهم أنفسهم. الأسد، الذي كان يتكئ على هذه الحبال الهشة، وجد نفسه عارياً في مواجهة شعبه، ومن هنا، جاءت هزيمته أسرع مما توقع حتى أشد معارضيه.

إنها نهاية منطقية لنظام لم يكن سوى أداة بيد قوى استنزفت نفسها، وجدت نفسها مشغولة بحماية ذاتها بدل حماية حلفائها. الأسد، الذي ظن يوماً أن الملالي والروس سيحفظون عرشه، اكتشف أخيراً أن الطغاة لا أصدقاء لهم حين تحين ساعة الحقيقة.

المتلونون يرقصون على أنقاض نظام الأسد

في مشهد سقوط الأسد، تطل علينا وجوهٌ بأقنعة متغيرة، أناسٌ كانوا بالأمس يحرمون الثورة ويصفونها بالخروج على “ولي الأمر” – عفواً، بل على “ولي الخمر”، إذ لا فرق بين من يشرّع للخمر علناً وبين من يشرّع الظلم والطغيان. كانوا يدافعون عن نظامٍ باع الأرض والعرض، وفتح سجونه لأبناء الشعب الحر، ثم فجأة، حين رأوا الكفة تميل، قفزوا إلى صفوف الفرحين، يتقاسمون النصر وكأنهم كانوا جزءاً من معركة التحرير.

وها هم أيضاً أولئك الذين هلّلوا للمشروع الصفوي بقيادة إيران، زاعمين أنها داعمة المقاومة وراعية المظلومين، يشاركون اليوم فرحة الثوار بإسقاط الأسد. ألا يستحون؟ كيف يحتفلون بنصر من ضحّوا بدمائهم وهم كانوا شركاء في تثبيت الطغاة؟ لقد كانوا يدافعون عن قاسم سليماني وهو يقود مليشيات الموت في الشام، وكانوا يتغنون بخطابات نصر الله وهو يبرر القتل باسم “طريق القدس”.

بل الأدهى من ذلك، أن نجد من كانوا في صف الأسد نفسه، يغيرون مواقفهم كمن يخلع رداءً قديماً ليواكب الجديد. هؤلاء الذين كانوا يهتفون باسمه في الميادين، يصفقون لبراميله المتفجرة، ويمجدون صوره، أصبحوا فجأة مناصرين للثورة. أي نفاق هذا؟ أم أنها الموجة التي لا يريدون تفويتها؟

لكننا نعلم جميعاً أن الثورة لا تنتظر موافقات هؤلاء المتلونين، ولا تحتاج لفرح المنافقين. النصر كُتب بدماء الأحرار، وليس بحبر التصريحات المتبدلة. الثورة ملكٌ لمن دفع ثمنها غالياً، لا لمن كان شريكاً في الطغيان ثم قفز من السفينة الغارقة بحثاً عن نجاة.

محمد بن الحسن

كاتب وباحث صومالي ، خريج ماجستير في أصول الفقه من الجامعة الإسلامية
زر الذهاب إلى الأعلى