اشتهرت مقديشو في الماضي على مستوى العالم الإسلامي بموقعها الاستراتيجي الرابط بين أهم الطرق البحرية في الشرق الأوسط ومنطقة القرن الإفريقي: البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي وبالتالي كانت تعتبر حلقة الوصل وناسج العلاقات بين شبه القارة الهندية والقارة الأفريقية والجزيرة العربية.
ان المناطق الساحلية الشمالية والغربية لشبه القارة الهندية تقع كما هو معلوم مقابل المناطق الجنوبية والشرقية لمقديشو، ولا يحول بينهما إلا المحيط الهندي، وتبدو المناطق الساحلية لكل منهما بوضعها الجغرافي ومنظرها الطبيعي ومناخها الموسمي ، منطقتين منفصلتين من قطر واحد ؛ ولذلك يرجع إلى هذا البحر الفضل الكبير فيما قام بين هذين القطرين من روابط وصلات وثيقة متعددة النواحي منذ فجر التاريخ من إزدهار ونمو واستمرار ، حتى يومنا هذا .
تكمن أهمية مدينة مقديشو في هذا الموقع باعتبارها شكلت قديما محطة على الطرق الرئيسية التي كانت تربط ما بين المستعمرات العربية في الشمال والجنوب حسب شهادات النصوص الجغرافيين والرحالة المسلمين وغيرهم من اليونانيين والرومان، وظلت على مر العصور محطة أنظار المهاجرين العرب والهنود والفرس، وعرفت في المصادر العربية بألقاب متعددة، منها مقديشو الحمراء، مدينة الإسلام أو مدينة المسلمين.
نظرة على تاريخ مقديشو
يلف تاريخ تأسيس مدينة مقديشو كثير من الغموض الأمر الذي أدى إلى تشعب الآراء واختلافها حول الموضوع سواء فيما يتعلق بالعصر القديم أو العصر الإسلامي. وكذلك الروايات الشعبية متضاربة ولا تخلو من المبالغات والأساطير ولا يعول عليها؛ لأنها لا تستند إلى اي أدلة مادية أو علمية. وقد جمع المستشرقون الأوروبيون وخاصة الإيطاليين كثيرا من الأخبار ومن مصادر متعددة حول تأسيس مدينة مقديشو ولم يتوصلوا إلى نتيجة نهائية حاسمة في تحديد فترة تأسيسها ومؤسسها. ولكنهم حاولوا ترجيح الروايات بعضها عن بعض وتحديد فترة زمنية تقريبية، وهي ما بين القرنين الثالث والخامس الهجري على يد مهاجرين عرب. وقد جمع الإيطالي انريكو جرولي عدة مخطوطات عربية في مقديشو منها وأهمها وثيقة اتفاق قبائل مقديشو لاختيار سلطان لهم بعد ثلاثة قرون بدون سلطان إنما كان يدير أمورهم شيوخ القبائل كل قبيلة لها شيخها، واخري لسيدة توثق عتق عبدها، وكذلك عدة كتابات علي القبور بإسم المتوفي وبتاريخ الوفاة.
ونقل البرتقالي يوحنا دي باروس أن جماعة كبيرة العدد من العرب أصلها من مدينة مجاورة للأحساء هبطوا في القرن الثاني الهجري شاطئ ازان(Azania) على متن ثلاث سفن بقيادة الأخوة السبع الذين فروا من جور سلطان مدينتهم ، وكانت مقديشو أول مدينة تأسست ثم تلتها براوة التي كانت في عهد احتلال البرتغاليين عبارة عن جمهورية تحت سيادة اثني عشر شيخا من سلالة الأخوة السبعة الذين أسسوها. أما مقديشو فكانت مملكة قوية ذات شوكة ونفوذ وكان سكانها الأول من الزيدية فقد أبوا الخضوع لحكامها من العرب المتأخرين لإختلافهم في المذهب فلما عجزوا عن مقاومتهم نزحوا إلى داخل البلاد وتزوجوا و امتزجوا مع الزنوج فبهذا الامتزاج تكونت أمة خليطة من العرب والزنوج.
يقول العالم دي هربلوت نقلا عن عبد المتعال الفاسي ان مقديشو أسست في عهد الفاطميين ومعلوم ان أسرة هؤلاء الخلفاء بدأت بالحكم ٢٩٦ هجري.
ويقول ياقوت الحموي في معجم البلدان، في حديثه عن مقديشو: مقديشو هي أول بلاد الزنج في جنوب اليمن في بر البربر في وسط بلادهم، وهؤلاء البربر غير البربر الذين هم بالمغرب، هؤلاء سود يشبهون الزنج جنس متو سط بين الحبشة والزنوج، وهي مدينة على ساحل البحر وأهلها كلها غرباء ليسوا سودان ولا ملك لهم إنما يدير أمورهم المتقدمون على إصلاح لهم، وإذا قصدهم التاجر لا بد له من أن ينزل على واحد منهم ويستجير به فيقوم بأمره، ومنها يجلب الصندل والأبنوس والعنبر والعاج. انتهى.
ويقول ابن سعيد بعد حديثه عن جبل حافوني “وفي شرقيه من بلاد بربرا المشهورة على البحر مركة حيث الطول ٦٩ د وثلاثون دقيقة والعرض درجة وعشرة دقائق، وأهلها مسلمون وهي قاعدة الهاوية التي تنوف على خمسين قرية، وهي شاطئ نهر يخرج من نيل مقديشو وينصب على مرحلتين من المدينة في شرقيها، ومنه فرع يكون حوض مركة، وفي شرقي ذلك مدينة الإسلام المشهورة في ذلك الصقع والمترددة الذكر على السن المسافرين وهي مقديشو حيث الطول ٢٧ درجة والعرض درجتان، وهي على بحر الهند ومرساها غير مأمون الأنواء”.
أول من كتب عن مدينة مقديشو بالتفصيل هو الرحالة المغربي ابن بطوطة ضمن رحلته الطويلة حول العالم. بدأ ابن بطوطة رحلته إلى سواحل شرق افريقيا من مدينة زيلع قادما من مدينة عدن الساحلية، ووصفها مدينة البربر بأنها مدينة كبيرة ولها سوق عظيم، وأهلها سود الألوان شافعيو المذهب وفي نفس ألوقت يقول إنهم رافضة يعني شيعة وهذا تناقض عجيب، ويقول أيضا مدينة قذرة نتنة بسبب كثرة سمكها ودماء الإبل التي تذبح فيها، حيث كره المبيت داخلها.
ومنها انتقل ابن بطوطة إلى مقديشو التي كانت تحت حكم سلطان أبوبكر بن شيخ عمر المتحالفة مع قبيلة أجوران الصومالية القوية الحامي والحارس علي القوافل التجارية البرية من وإلى مقديشو، ومن الملفت كون سلطان مقديشو يتكلم بالعربي وبالمقديشى فضلا عن كونه من البربر حسب رواية ابن بطوطة، وهذه ملاحظة في غاية الأهمية؛ لأنها توضح مدى تداخل العنصر العربي أو الفارسي بالعناصر المحلية الصومالية حيث ذابت الجماعات ا الوافدة في المجتمع المحلية، وفقد كل واحد منهم لغته و سماته الأصلية وتكون مجتمع جديد له سمات ولغة أخرى وهي مزيج من العربية والفارسية والهندية والصومالية. ويحتمل أن يكون المقصود بـ المقديشي باللهجة المحلية وهي لهجة معروفة ومستعملة في مقديشو الى يومنا هذا ويسمى ايضا البنادرية أو بلهجات أخرى كالتي تستعمل في مركة أو في براوة، وليس بالضرورة أن يكون المقصود باللغة الصومالية الحالية، وهذا نتيجة احتكاك واختلاط سكان مقديشو بالقبائل الصومالية القاطنين حول مقديشو والواردين من خارجها للتجارة أو الدراسة.
ومن المحتمل أيضا أن يكون هذا السلطان ابن لزيج مختلطة أو نتيجة تداخل وتزاوج بين العربي والزنجي او الصومالي، وان القبائل العربية المؤسسين لمدينة مقديشو انصهروا و امتزجوا مع السكان الأصليين من الزنوج ومن الصوماليين وبذلك فقدوا سماتهم اللغوية والعرقية الأصلية.
وقد وصف ابن بطوطة مقديشو وصفا دقيقا مما لقيه من كرم الضيافة وحسن الاستقبال، وبالغ في ثنائها وقال إنها مدينة كبيرة متناهية في الكبر وتكلم بحسن وكرم سلطانها، عكس زيلع حيث ذمها ولم يذكرها بخير ويعزو الدكتور بشار أكرم جميل هذا كونه لم يجد في زيلع استقبالا حسنا ولم يهتمو به وهذا دأب ابن بطوطة يمدح كل المدن التي لقى فيها استقبالا وتكريما ويذم أو يسكت عن الذين لم يجد فيها ترحيبا، انتهى. وتحدث ابن بطوطة عن عاداتهم وتقاليدهم في استقبال الضيوف والمراسيم الرسمية، والقضاء، وأنواع الطعام والفواكه، وكيفية اعدادها، وأنواع ملابسهم وطريقة لبسهم وغيرها، والبضائع التي يصدرونها إلى الخارج والتي يستوردونها من الخارج.
في فترة حكم سلطان ابوبكر شهدت مقديشو نموا وازدهارا كبيرا في العمران والتجارة والصناعة، وذاع صيتها في الآفاق ووصلت أزهى عصورها وكانت تصدر منتجاتها الصناعية والزراعية إلى مصر والجزيرة العربية، وجزر المحيط الهندي كجزر المالديف.
العلاقة التجارية بين مقديشو وجزر المالديف
إن العلاقات التجارية بين مقديشو وشبه القارة الهندية، علاقات قديمة، خاصةً العلاقة التجارية بين منطقة مليبار وجزر المالديف ومقديشو وقد سجلت في ثنايا سجلات وكتب رحلات التجارة والمؤرخين والرحالة عبر القرون ولاسيما في القرون الوسطى، وكانت مقديشو شريكا تجاريا رئيسيا للقارة الهندية وجزرها، والمصدر الرئيسي للمواد الغذائية من اللحوم والاسمان، وكذلك الصندل والأبنوس والعنبر والعاج.
وقد وثق لنا ابن بطوطة أثناء رحلاته في الجزر الهندية ومالديف وخاصة الأخيرة، ما عاينه من منتجات مقديشو، والتي تدلنا مدى التطور الاقتصادي التي كانت تتمتع مقديشو عبر العلاقات التجارية مع العالم الإسلامي. وكان السمن المقدشي الفاخر والغالي من أبرز المنتجات التي كانت تصدر إلى الجزر المالديف، وكان من أهم مكونات التجميل والتطيب لدي المالديفيين. وكانت النساء المالديفيات يدهن ازواجهن وابنائهن بالغالية المقدشية. وذكر ابن بطوطة أثناء حديثه عن نظافة المالديفيين بأنهم يتلطخون بالغالية المقدشية التي تصقل البشرة وتزيل الشحوب عن الوجه. وهذه العادة كانت موجودة حتى في وقت قريب في أوساط الصوماليين، وأنا أتذكر عندما كنا صغارا كيف أن الوالدة الله يطول عمرها بالصحة والعافية كانت تدهن على أجسادنا بالسمن البلدي في كل صباح ولكنها وللأسف انقرضت هذه العادة وحل محلها نيفيا(NIVEA) وأخواتها والمواد الكيمائة الأخرى.
ويقول ابن بطوطة:
إنهم(أهل المالديف) أهل نظافة وتنزه عن الأقذار وأكثرهم يغتسلون مرتين في اليوم ويتلطخون بالغالية المجلوبة من مقديشو. ومن عاداتهم أنهم إذا صلوا الصبح تأتي كل امرأة إلى زوجها وابنها بالمحكلة وبماء الورد ودهن الغالية فتصقل بشرته وتزيل الشحوب عن وجهه.انتهى.
وكذلك اللحم الماعز المقدشي العزيز عندهم وكان من المنتجات التي رآها ابن بطوطة في مالديف وقال إن الماعز عزيزة عندهم لانها مجلوبة من مقديشو، مليبار والمعبر.
ولم يقتصر إصدارات مقديشو الخارجية المنتجات التجارية فقط بل على مدار التاريخ الإسلامي ساهم علماء ومفكرون من مقديشو في بناء الحضارة الإسلامية بأفكارهم وأبحاثهم ودراساتهم السياسية والفقهية واشتهروا، من الفقهاء والمحدثين والقضاة والحديث عنهم غنى عن التعريف والذين تبوؤوا مناصب عليا فى القطر الإسلامية كمكة ودمشق والقاهرة. ومن العلماء الكبار الذين درسو في المسجد الأموي الشيخ ابو عبدالله المقدشاوي كما ورد في كتاب الدّارس في التاريخ المدارس ج ١ 161/503
لعبد القادر النعيمي الدمشقي، ما نصه:
ومنهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي بكر بن الحسن بن يوسف ابن التميمي الجوهري المقدشي (بالسين المعجمة) في آخره ، ويقال له المقدشاوي معيد البادرائية في دمشق. ومن القضاءة القاضي محمد بن أبي بكر قاضى مكة في سنة سبعمائة وخمسين هجرية وهو من مقديشو وآخرين.
العقد الثمين في تاريخ بلد الأمين لتقي الدين محمد بن احمد الحسنى الفاسي.
ولكن ربما لا يعرف الكثيرون أن هناك رجالا من مقديشو ممن كان لهم دور في الحياة السياسية والاجتماعية خارج أوطانهم، كعبدالعزيز المقدشي الذي كان وزيرا لإحدى جزر المالديف كما ذكرها ابن بطوطة في رحلته في جزر المالديف وقد نزل ضيفا عنده وأحسن ضيافته.
مقديشو وجزر المالديف: تراجع العلاقة التجارية وأسبابه
وظل حال مقديشو مزدهرا يقصده الناس من كل حدب وصوب ونالت شرف اللقب بمدينة المسلمين، إلى أن جاء البرتغاليون إلى سواحل شرق إفريقيا، واستولوا على أهم مدنها ما عدا مقديشو، وأثناء ذلك بدأت قوة سلطنة مقديشو ومعها الاجوران التي كانت تحمي مقديشو من الخارج في الأراضي الداخلية تتلاشى بسبب توقف التجارة من وإلى سواحل شرق أفريقيا على خلفية سيطرة البرتغاليين عليها والحصار الذي فرضوه على ميناء مقديشو، وايضا بسبب الحروب والنزاعات التي دارت بين القبائل الصومالية المحيطة بمقديشو، وبهذه الأسباب وغيرها أدت إلى أفول نجم سلطنة مقديشو ومعها الاجوران. وبهذا دخلت مقديشو مرحلتها المظلمة وانحطاطها بسبب تسلط البدو عليها، والصراعات الدولية في شرق أفريقيا والمحيط الهندي .
وأثناء ذلك ظهر لاعبين جدد في المسرح السياسي والعسكري في بنادر والمناطق الداخلية القريبة من مقديشو، قبيلة الابغال المنتمية إلى قبائل هوية الصومالية استولت علي مقديشو بعد تغلبها على قبيلة أجوران التي كانت تحكم المناطق الداخلية الى حدود الحبشة غربا وبعض المدن الساحل وحليف لسلطان مقديشو، وأصبح إمام الابغال حاكم مقديشو، لم تستطع مقديشو النهوض من جديد كونها تحت قبضة البدو الذين ليسوا أهلا لإدارة مدينة عريقة وكبيرة كمقديشو وذلك لعدم امتلاكهم الخبرة السياسية والحضارية والثقافية والمدنية التي تأهلهم أن يحكموا بلدا بهذا الحجم.
وكذلك كان حال المدن الساحلية الأخرى كمركة وبراوة وقعن تحت سطوة القبائل البدو الصومالية حيث سيطرت قبيلة بيمال مركة بعد قتل أمير جوران الذي كان بزيارة إلى مركة، وقبيلة توني على براوة، وغليدي علي المناطق الداخلية ( الأراضي الخصبة بين نهري شبيلي وجوبا) ، وأصبحت افغوي قاعدة له.
وبهذا انتهت أسطورة سلطنة أجوران التي دامت عدة قرون، وبدورهم خاض اللاعبون الجدد فيما بينهم صراعات قديمة جديدة للسيطرة والنفوذ على الأراضي التي طرد منها الاجوران وقد تمكنت غليدي التغلب وإخضاع جمع من القبائل القاطنة حول مقديشو ومناطق الداخلية لنفوذها، إلا بيمال وقد استعصت عليه رغم قوته وقلة بيمال وانحصاره على شريط ساحلى ضيق الممتد من الجزيرة جنوب مقديشو الى منغية.