ما بعد زيارة كباشي للساحل الإفريقي

قبيل زيارة نائب القائد العام للقوات المسلحة السودانية الفريق أول ركن “شمس الدين كباشي” إلى مالي والنيجر في الرابع من يونيو الجاري، تواصلت معي إحدى وسائل الإعلام الإفريقية الناطقة بالفرنسية في الغرب الإفريقي طالبة مني التعليق على زيارة الفريق “كباشي” المرتقبة لمنطقة الساحل الإفريقي، ووجدت في ذلك فرصة أبعث بها برسالة إلى النخب الإفريقية في منطقة الغرب الإفريقي التي تتفاوت في معرفة ما يحدث في السودان، فأجبت المحاور بأن خبر زيارة الفريق “شمس الدين كباشي” إلى الساحل الإفريقي هو أجمل ما وقعت عليه عيناي اليوم، وهذه فرصة أرسل من خلالكم رسالة إلى الفريق “كباشي” وأقول له تأكد يا سيادة الفريق أن نيامي وباماكو ومنذ عهد الأنظمة السابقة يتطلعون لهذا اللقاء مع الخرطوم ولكنها التقاطعات التي أبعدت السودان من جوارها الإقليمي، وفي فبراير الماضي أشرنا إلى ضرورة التحالف مع دول الساحل الإفريقي لمحاصرة أنشطة مليشيات الدعم السريع ودحرها وجاءت تلك المناشدة مفصلة في مقال منشور بعنوان “منبر جدة، مساعي ستحققها الخرطوم وحقائق تدركها الرياض ” باللغتين العربية والفرنسية”، أما اليوم  فكل الذي أتمناه من سيادة الفريق كباشي لإنجاح التحالف الأمني والإستخباراتي بين الخرطوم ودول الساحل الجديد  “ليبتاغو غورما” هو الأتي:  

  • ‏ إقناع القيادات السياسية في دول الساحل الإفريقي بتبني الخرطوم لسياسة التحالف الأمني التي تتبناه دول الساحل الجديد “ليبتاغو غورما” وتقارب الخرطوم وموسكو موخراً يبدو كافياً لتسهيل تلك المهمة على الدبلوماسية السودانية أمام “ليبتاغو غورما”.
  • مقابلة منظمات المجتمع المدني وممثلي الأحزاب السياسية الكبرى في النيجر ومالي لما لهم من دور محوري في التأثير على الرأي العام، والإستثمار في حالة الوعي السياسي المتصاعد الذي تشهده منطقة الساحل والداعم للسيادة السودانية.
  • تفعيل دور البعثات الدبلوماسية السودانية في كافة دول الغرب الفرانكفوني وذلك من خلال المشاركة في الندوات الشهرية التي تعقد لمناقشة الملف السوداني في بعض العواصم الفرانكفونية لتوضيح خطورة مشاريع مليشيا الدعم السريع العابرة للحدود ودورها في تقسيم الدولة الوطنية والذي لن يتوقف على حدود السودان بل سيمتد لدول الساحل الأفريقي وما جاوره.
  • عقد لقاء مع رؤساء وأعضاء مجالس الصداقة الإفريقية أو ما تعرف بالفرنسية “Honneur africain” والذين يدينون بالولاء للمؤسسات الأكاديمية والتعليمية التابعة للدولة السودانية ونجحوا اليوم في الوصول إلى أعلى المناصب في بلدانهم بدليل ظهور مشروع ما يطلق عليه بالفرنسية “Développement institutionnel dans les ministères souverains” ويعني باللغة العربية “التطوير المؤسسي في الوزارات السيادية” والذي يقوده خريجي المؤسسات الأكاديمية السودانية ويوكل إليهم ملف العلاقات الأفريقية الأفريقية ( خاصة دول الشمال والشرق الإفريقي).
  • تكثيف الحضور الإعلامي السوداني في وسائل الإعلام الأفريقي الفرانكفوني لما له من أهمية كبرى في إيصال الصورة وتبيان المشهد السوداني على حقيقته، ولتحقيق نتائج سريعة حول ذلك أرى أن تعمل الخرطوم على الإستعانة بأنقرة لما للأخيرة من خبرة واسعة في التعامل مع الإعلام الإفريقي المقروء والمسموع.
  • تفعيل دور الدبلوماسية السودانية في كافة دول الغرب الإفريقي وذلك من خلال التواصل مع اللجان المنظمة للأحزاب السياسية الكبرى الساعية للترشح للرئاسة في بعض العواصم الفرانكفونية فعلى سبيل المثال تحدث الرئيس الإيفواري السابق لوران باغبو في مايو الماضي أثناء حضوره حفل ترشحه للرئاسة لعام ٢٠٢٥ عن أهمية الحفاظ على سيادة وإستقرار السودان، وأكد بأن المليشيات لا يمكن أن تحكم السودان.

وبعد إنتهائي من ذلك اللقاء وصلتني رسائل عدة إختلطت بها مشاعر راسليها ما بين المشجع والمنزعج والمستهين، ولكن أوقفتني رسالة واحدة وصلتني من العاصمة السودانية “الخرطوم” وجدت فيها ما يستدعي الرد عليها وتفنيد ما جاء فيها لوأد حالة اليأس التي غالباً ما أراها في كافة الرسائل التي تصلني من الأخوة السودانيين من داخل وخارج السودان، تلك الرسالة يقول فيها السائل ما يأتي : “لماذا الاصرار لوضع السودان وشعبه مع دول متهالكه تُحكم بتخلف عسكرة الحياه المدنية بلا شرعيه ويرتل شعبهم أناشيد تعصب وجهل وتخلف واهية وجوفاء وهم جوعى ومرضى وفقراء، سيتمتع أهلنا بالسلام وبوطن يسع الجميع بعيداً عن وكلاء الموت والطاغوت” إنتهي كلام السائل، وبادرت فوراً بالرد عليه رغم ضيق وقتي بسبب سفري المتوصل وضعف شبكة الإنترنت في بعض المحطات التي أتوقف فيها، وكان رد رسالتي هو الأتي :

هناك حكمة أفريقية قديمة تقول “لا يريد الهمّ منك أكثر من أن تريده فيأتي”، دول الساحل الإفريقي اليوم يا سيدي الفاضل ليست كما عهدتها العقلية الدولية ناهيك عن الأفريقية، فالدول التي وصفتها في تعليقك بالمتهالكة لم تعد كذلك، فمن كان يصدق حتى عهد قريب أن باماكو تقود اليوم تحالف سياسي أمني واستخباراتي في منطقة الساحل، وتطور ذلك التحالف حتى وصل لتشكيل لجان ثقافية علمية خاصة لإعادة تشكيل المجتمع من الداخل وفرض الثقافة الأفريقية الأم، وما كان الخطاب الأول للرئيس المالي “أسيمي غويتا” لشعبه وباللغة المحلية عبثاً بل هو رسالة للعالم أجمع بالنهج الجديد الذي فرضته باماكو ويجب على العالم إحترامه والإعتراف به،  باماكو تريد إستعادة وزنها التاريخيّ والسياسي كواحدة من أعرق العواصم الأفريقية التي لعبت دوراً محورياً في تعزيز التضامن الأفريقي الذي كان قائده في ذلك الوقت الرئيس “موديبو كيتا” أحد أهم رموز التاريخ السياسي الإفريقي والذي لعب دوراً في صياغة ميثاق الوحدة الأفريقية وتشكيل إتحاد دول غرب أفريقيا ونجح في إنهاء الصراع المسلح بين الجزائر والمغرب الذي عرف وقتها  بــ”حرب الرمال”، وبسبب الإستراتيجية التي تم فرضها على إفريقيا  والتي تتلخص في إفراغها من الأصوات الوطنية تم الإنقلاب على “موديبو” وتأسيس نظام أمني بقيادة ضابط المخابرات “تيكورو باجايوكو” الذي رفع شعار “البيئة العلمية مُعادية للنظام العسكري” وهذا ما تحاول باماكو التخلص منه بدليل دعم الأكاديميات التخصصية ووضع خطة لتطوير المنهج العلمي، وبسبب دور السودان القديم في تأسيس وتطوير العملية التعليمية في إفريقيا كان لذلك صداه وإنعكاساته الإيجابية على الصعيدين السياسي والأمني، أما بخصوص وصفك لشعوب منطقة الساحل بأنهم جوعى وفقراء ومرضى، فوالله الذي لا إله إلا هو أن بعد تجربتي الميدانية في القارة الأفريقية إكتشفت بأن لا جوعى ولا فقراء ولا مرضى في هذا العالم  إلا في عالمنا العربي، فالجوع والفقر والمرض ليس مرتبطاً بالمال أبداً، ولكن العار بل هو كل العار عندما تكون جائعاً لإرادة تمثلك ولا تملك حتى حق التعبير عنها، وعندما تكون فقير كرامة ولا تملك حتى حق إستردادها لأنها مرتبطة بما ستقدمه لك السلطة من أموال ومناصب عليا تشققت كرامتك قبل قدماك للوصول اليها، هذا هو العار الحقيقي وهذا الذي لم أجده في تلك الشعوب التي نجحت بعد عقود طويله من الإمتهان السياسي والإقتصادي أن تنتزع إرادتها، مالي والنيجر و بوركينافاسو الذين وصفتهم في تعليقك بأنهم جهله ومتخلفين فهؤلاء يا سيدي نجحوا  في الجلوس مع القوى الدولية “واشنطن” رأساً برأس وأبلغوهم “النيجر” بكل وضوح بعدم رغبتهم بوجود قاعدة أمريكية على أراضيهم، فهل سمعت بأن هناك عاصمة عربية تجرأت وفكرت مجرد تفكير في مثل هذا الطلب ناهيك عن التفوه به ؟! هل تعلم بأن تلك الدول أجبرت باريس على الإنصياع لأوامرها والإعتراف ضمناً بأن الساحل لم يعد مرتعاً تعيث به فساداً كما كان، لكن سؤالي هو لماذا الإستهانة بدور دول الساحل في الإقليم وما المانع في عقد الجيش السوداني تعاون أمني مع جيوش تلك الدول؟ الأزمة السودانية يا سيدي ساهمت في تغيير مفهوم الأمن الإقليمي التي كانت تعتنقه الخرطوم، بعد التحديات الأمنية والسياسية التي وجد السودان نفسه فيها منذ إبريل من العام الماضي حتى اليوم، والذي إنعكس بدوره على رؤية القيادة السودانية لإقليمها الجغرافي.

هناك حقيقتان راسختان اليوم في عقلية القيادات السياسية والأمنية في الساحل وما جاورها هما:

الأولى: الرهان على قيادة مليشيا الدعم السريع للدولة السودانية فقد ساقيه ولم يعد محل نقاش بعد فشل مساعي “نصر الدين عبد الباري” ومن خلفه في إنتزاع دعم أمريكي يصل قائد مليشيا الدعم السريع “حميدتي” لسدة الحكم في السودان  

الثانية: أذرع الدولة السودانية العميقة يمكنها أن تجهض الحكم المدني في السودان، في تكرار للسيناريو المصري  2013عندما نجحت الدولة المصرية العميقة من إجهاض أول حكم مدني في تاريخ مصر، مع الأخذ بالإعتبار الفرق بين حكم مدني جاء بإرادة شعبية وبين حكم مدني “مستورد” يريد الوصول للسلطة بوصاية ودعم خارجي، وهذا ما يفسر المحاولات المستميتة لتفكيك المنظومة العسكرية للجيش السوداني، وإحلال الدعم السريع محلها كذراع مسلح ضامن لإستمرار الحكم المدني المستورد في السودان في حال وصوله للسلطة.

‏كل الذي يجب العمل عليه الآن هو الوقوف ضد كافة محاولات التشكيك بالجيش الوطني السوداني وتسخير كافة الجهود الشعبية والإقليمية للإلتفاف حوله ودعم كل ما يقوم به من تحالفات حفاظاً على سيادة الوطن ووحدة أراضيه، أتمنى لكم النصر والسداد والإستقرار. 

د.أمينة العريمي 

باحثة إماراتية في الشأن الإفريقي 

afrogulfrelations_21@hotmail.com

د.أمينة العريمي

أمينة العربمي باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
زر الذهاب إلى الأعلى