الصراع الصومالي الإثيوبي  من منظور تاريخي (3)

الحدود الجغرافية التاريخية الصومالية

تعرضنا في الحلقة الماضية الحدود الجغرافية التاريخية للحبشة، و أثبتنا أن حدودها الجغرافية التاريخية هي  الهضاب والمرتفعات ما بين شوا- امهر- تغراي، ولم يكن لها أي امتداد أو اتصال جغرافي بالبحر الأحمر أوالمحيط الهندي.

وفي هذه الحلقة نتناول الحدود الجغرافية التاريخية الصومالية البحرية والبرية في القديم وفي العصورالوسطي، وبالأدلة التاريخية ومن المصادر والمراجع التاريخية الموثقة.

 “القرن الأفريقي”  المنطقة التي تمتد نحو المحيط الهندي وتُغلق أو تحد البحر الأحمر من الجنوب، وهي الشريان الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية في العالم لاسيما بعد  فتح قناة السويس. على الرغم من كونها قاحلة وغير مضيافة، ظلت منذ آلاف السنين مكانا لتبادل  الحضارات والتجارة الدولية.  وإلى الشمال منها خلف خليج عدن، تقع اليمن، أرض ملكة سبأ الجزء الذي كان أول منطقة ازدهرت فيها الحضارات في الجزيرة العربية.  وإلى الغرب تقع إثيوبيا، حيث تواجدت فيها مملكة أكسوم منذ تأسيسها في القرن الخامس قبل الميلاد.

كانت سواحل منطقة القرن الإفريقي تتمتع بالعديد من الموانئ الطبيعية، وهي موانئ  للتجارة من وإلى الهند والجزيرة العربية، ومن أبرز تلك الموانئ ميناء مدينة زيلع التي أصبحت في القرن الرابع عشر الميلادي مدينة ضخمة ، كما يشهد ذلك الجغرافيون العرب الأوائل الذين كتبوا عنها أو زاروها. وكانت وجهة التجار والمهاجرين من العرب والفرس.  أما المناطق الداخلية ، فظل السكان يمارسون حياة البداوة بعيدين عن الحضارة.

فخليج بربريا أو ساحل بربريا المقابل لسواحل تهامة اليمن كما عرفه القدماء،  قد شاع ذكره واشتهر  في العصور القديمة في كتابات المؤرخين والرحالة والجغرافيين اليونانيين وغيرهم عند وصفهم ساحل القرن الأفريقي، وقد اقترن  غالبا اسم بربرا بشبه الجزيرة الصومالية الحالية عند ذكر ساحل  بحر القلزم (البحر الأحمر) والمحيط الهندي،  المنطقة الممتدة من باضع(مدينة مصوع في إريتريا) شمالا الى مقديشو جنوبا، وان سكانها غير جنس الحبشة والزنج، وقد فرقوا بينهم وبين باقي سكان المنطقة  كالحبشة والزنج لرفع الالتباس.

 تظهر الأدلة الأثرية أن الصومال كانت مأهولة بالسكان منذ العصر الحجري القديم ،  على الأقل كما يتضح من لوحات وتصاوير كهف لاس جيل.  يُعتقد أن الحضارة القديمة المعروفة باسم أرض بونت، كانت موجودة في المنطقة المعروفة اليوم بالصومال منذ حوالي 3000 إلى 1500 قبل الميلاد؛  وورد ذكرها في “الكتاب المقدس” بأنها أرض أحفاد حام.  تُظهر الوثائق المصرية من عصر الفراعنة أن أرض بونت كانت شريكًا تجاريًا لمصر، والتي أشارت إليها باسم “أرض الآلهة”. وكما قسموا الصومال إلى ثلاثة أقاليم. وأطلقوا لكل إقليم بإسم خاص به حسب طبيعة السكان أو طبيعة المنطقة وما يوجد فيها من موارد طبيعية أو ما اشتهرت به من المنتجات، كالبخور والحيوانات البرية وغير ذلك مما كان مرغوبا لدى الشعوب الشرقية. وسموا المنطقة الشمالية برباريا(Barbaria Regio) وأطلقوا على المنطقة الشرقية اسم إقليم العبير أو البخور(cinnamomofera regio) والمنطقة الجنوبية ازانيا(Azania).

واللافت أنه لا ذكر أو إشارة من قبل الجغرافيين والرحالة في عصر ما بعد الميلاد عند حديثهم عن بلاد البربر وساحله إلى وجود الحبشة بأي شكل من الأشكال فيها كشعب أو كسلطة سياسية أو عسكرية في بلاد بربريا رغم معرفتهم المؤكدة بالمملكة الحبشة والتى كان لها تواصل مع المصريين في البداية، والرومان  فيما بعد حين سيطروا اي الرومان على مصر، ما يدل  على استقلالية بلاد البربر السياسية والعسكرية خاصة الجانب الساحلي منه وتمتعه بحكم مستقل وأنه خارج نطاق حدود الحبشة.

 والجدير بالإشارة هنا إلى أن الحبشة في القرون الأولى الميلادية كانت مملكة قوية، واعتنقت المسيحية مبكرا في القرن الرابع الميلادي حيث من المفترض أن يصل نفوذها الى البحر الأحمر، أو على الأقل أن يكون لها سيطرة بحرية أو منفذ بحري تسيطر عليه، لكن يبدو أنها كانت منعزلة  أو محصورة  في الأراضي العالية والمرتفعات الجبلية.

 ومن الجغرافيين البارزين الذين طافوا هذه البلاد فجاسوا خلالها وقدموا وصفا دقيقا عنها Ariano Nocomedia(160-200 Dc) البحار اليوناني صاحب كتاب الطواف حول بحر إريتريا Periplus maris  erythreium، الذي لا غنى عنه لمن يريد أن يقوم بدراسة شبه الجزيرة الصومالية بعناية .

تكمن أهمية هذا الكتاب أن صاحبه زار المنطقة كبحار وجغرافي وليس كتاجر، تمكن من خلال رحلاته على طول الساحل القرن الأفريقي الوقوف بنفسه على المراكز والمحطات الرئيسية، واتصاله المباشر بالسكان ونقل تفاصيل دقيقة عن الحياة وأحوال تلك المنطقة التجارية والبيئية، وحدودها الجغرافية مدينة مدينة وقرية قرية. وكذلك هناك بحار يوناني آخر يدعى  Marcian D’Eracleo صاحب كتاب Periplo del mare الذي عاش تقريبا في القرن الخامس الميلادي. ويقول في بعض وصفه عن الصومال خاصة المنطقة  الشمالية الشرقية: “بالنسبة لمن يبحر من الجنوب ويجعل الساحل عن يمينه يجد أو يظهر له  جبل الفيل وإقليم البخور أو منطقة العبير، وبعدها يمتد ساحل يسكنه أناس يسمون البربريون، حيث توجد مداخل ومنطقة تسمى ازانيا”.انتهي (Agostino Gasparro, 1909-49-50).

 تناول كثير من   المستكشفين والمستشرقين الأوروبيين في القرن التاسع عشر الميلادي الحديث عن القرن الأفريقي واشبعوا بحثا وتفصيلا، وتوسعوا في تتبع أخبار الجغرافيين والمؤرخين والرحالة القدماء حول القرن الأفريقي، وتعرضوا لها من أوجه شتى، وحاولوا تحديد المسارات البحرية والبرية ومواقع المدن، والآراء المختلفة التي ورد ذكرها في الكتابات القديمة،  وأجمعوا تقريبا على أن الساحل البربري  لم يكن ضمن نطاق حدود الحبشة التاريخية. اللهم إلا ما كان من توسع المملكة الحبشة المؤقتة في فترات مختلفة عسكريا أو سياسيا.

يقول الكاتب الإيطالي فابيو غراسو في كتابه الاستعمار الأوروبي في شرق أفريقيا: “يعد ساحل الصومال، مثل معظم سواحل شرق أفريقيا، أحد أقدم المناطق المعروفة في العالم.  صحيح أنه على مر القرون كان لتاريخ الساحل الشرقي لأفريقيا خطوط وخصائص موحدة، تتداخل وتتمازج الأجزاء أو المناطق المختلفة بعضها، وتندمج في خط عام؛  ولكن من الصحيح أيضًا أنه عندما يتم تحديد هذا الأثر التاريخي، وليس التاريخ بشكل أفضل وتخصصه في المحليات، تاركًا المدار غير المحدد للخطوط العامة، فإن بنادير تكتسب ملامحها الخاصة وهي ملامح معينة وليس أقل من التاريخ العام لشرق أفريقيا”.

ويقول(الكاتب الإيطالي فابيو غراسو) أيضا:  “إن الوثيقة التاريخية، التي تتحدث عن  شرق أفريقيا، وعلى وجه الخصوص  سواحل شمال وجنوب الصومال في فترة روما الإمبراطورية، هي الطواف حول البحر الأحمر، المنسوب إلى آريان النيقوميدي، والتي وفقًا لأكثر الآراء  وثوقا تعود إلى زمن سيبتيموس سيفيروس وكركلا (198-210 م).  وهذه الوثيقة ستكون أكثر أو أقل، معاصرة  لبطليموس كلوديوس، الذي أخبرنا أيضًا فيما يتعلق بالجغرافيا الأفريقية عن أدق المعلومات التي كانت متاحة في تلك الأوقات،   من المؤكد أن هذه الكتابة تأتي بعد أكثر من قرن من الزمان من اكتشاف هيبالوسا البحَّار اليوناني لدي الإمبراطورية الرومانية بالطريق التجارى من البحر الأحمر إلى جزر الهند، مستفيدًا من الرياح الموسمية المتناوبة التي درسها.  ويقدم لنا ايضا بإيجاز عن سجل رحلة تجارية بحرية نظمت على سواحل شرق أفريقيا، وبشكل رئيسي سواحل الصومال،  ولم تصلنا أي وثيقة أفضل دقة من هذه، وفقا للمؤشرات الجغرافية في الساحل الأفريقي والبحر الأحمر وشرق أفريقيا، التي اتبعتها البعثة، سواء  رحلة الذهاب أورحلة العودة.  من المثير للاهتمام وصف السفن التي أكملت الطواف ومتابعة مسار الرحلة وتلخيصه في الجزء الذي لا يتعلق بالساحل الصومالي.  إلى أن انتهي الوصول إلى رأس اروماس (جاردافوي) حيث انتهى ساحل عادل أو بربريا كما كان يطلق عليه آنذاك (وبقي الاسم بربرة الى الآن، المكان الرئيسي لأرض الصومال الإنجليزية).  ومن هذه النقطة يبدأ وصف الساحل الشرقي لإفريقيا،  والذي حدده مؤلف كتاب Periplus maris erythreium. إن الفينيقيين، حتى قبل الحملة النبي سليمان، كانوا يعرفون الطريق البحري المؤدي إلى أوفير (خليج سوفالا)، أي طريق الخليج العربي، والبحر الأحمر، والمحيط الهندي، على طول ساحل الصومال. والتي نظرًا لطرق ووسائل الملاحة المستخدمة في ذلك الوقت، والمعرفة الفلكية في ذلك الوقت، لم يكن بإمكانهم أبدًا الانحراف عنها. إن المعلومات التي وردت في سفر الملوك وفي سفر أيوب وفي مقاطع أخرى من “الكتاب المقدس” حول إثيوبيا ومنتجاتها، بالنظر إلى  المعرفة الجغرافية في تلك الأوقات، والتي يمكن أن تُنسب لهذه الإمبراطورية امتدادات أكبر بكثير مما هي عليه الآن”. انتهي.

 والملاحظ إصرار الكاتب استخدام كلمة الصومال وإطلاقه على ساحل القرن الأفريقي مع العلم ان “الصومال” لم يستخدم كاسم للمنطقة المعنية إلا في وقت متأخر من القرن التاسع عشر الميلادي،  وهي دلالة واضحة بإيمان الكاتب، كماهو الحال الكثيرين من الكتاب والمستشرقين بأن هذه البلاد ببحرها وساحلها صومالية. ولا علاقة لها جغرافيا بـ إمبراطورية الحبشة في القديم،  ولها حدودها البحرية والبرية المعروفة المنفصلة والمستقلة عن باقي بلدان شرق أفريقيا وعدم تبعية هذه المنطقة للحبشة جغرافيا، وإن نَسَبَ البعض للحبشة في فترة من الفترات امتداد جغرافي أكثر مما هي عليه الآن، وذلك لأنه لم يكن لبلاد البربر كيان سياسي وكانوا قبائل متفرقة يجتمعون تحت اسم البربر ولم يكن لهم حكم ولا سياسة كما للحبشة،  ولا يعني ذلك أبدا إثبات أو إشارة كون هذا الجزء من الساحل ضمن الحدود الجغرافية التاريخية للحبشة. 

وكذلك اريتودو( 440 ق. م) الذي يعتقد أنه  قد ذكر في كتاباته أن سفن النبي سليمان والفينيقيين  كانت تجلب الذهب من القرن الأفريقي، وهذا الخبر  ورد أيضًا في سفر الأخبار المعروف بإسم براليبومين.

المدرسة الإسكندرية هي أول من ذكرت بعض الشيء عن الصومال، ( ارتوستني 200 ق. م) صاحب مكتبة الإسكندرية سَمي مكان غواردفو الحالي بـ”نوتي كومو” ، وكل سواحل الصومال الحالية بجيناموميفيرا.

ذكر بطليموس الفلاذي الذي عاش في عصر الإمبراطور الروماني ادريانوس في مصنفاته الحوادث والرحلات التجارية مع شرق أفريقيا، وكذلك أيضا ذُكرت خريطة الساحل الشرقي الأفريقي بشكل تفصيلي في كتاب الطواف ببحر إريتريا المنسوب لاريان النيقوميدي.

ونجد ذكر ما يعرف اليوم بـ الصومال وبلاد البربر سابقا  في أخبار وأشعار العرب الجاهلية وقد ثبت  في التراث والأدب الجاهلية عند العرب أنهم كانوا يعرفون مناطق الصومال، وأطلقوا عليها اسم بربر. وقد أورد الدكتور محمد خليفة ركابي في بحثه القيم والفريد حول بلاد البربر (الصومال) تحت عنوان : بلاد البربر (الصومال) في مصنفات الجغرافيين والرحالة المسلمين في القرن الثالث الهجري إلى القرن الثامن الهجري والذي نشر في مجلة المؤرخ العربي العدد ٢٦ المجلد الثاني ٢٠٢٠، تفاصيل ومعلومات كثيرة وهامة عن الصومال وسكانها وعلاقتها  بالعرب قبل وبعد الإسلام خاصة في شعر الجاهلية وكتب الجغرافيين والرحالة المسلمين منذ القرن الثالث الهجري.

وبعد دخول الإسلام في شرق أفريقيا نجد في كتب الجغرافيين والمؤرخين والرحالة المسلمين الذين دونو في كتبهم أخبار الممالك الإسلامية في شرق أفريقيا وحدودها البرية والبحرية، أن بعض المدن الرئيسية آنذاك مذكورة في تلك الكتب كبربرة، وزيلع ، واوتل ، وجبرت ، وبربرة،  ومقديشو،  ومركة، وبراوة. والجدير بالذكر أنهم يُعرِّفون هذه المناطق يعني شبه جزيرة الصومال الكبيرة والحبشة بإسمين مختلفين للتفريق بينهما ويبينون أنهما ليستا  في كتلة واحدة  ومن جنس واحد: الحبشة وتشمل الهضبة والمرتفعات التي تحاذي السهول والمناطق المنخفضة والمفتوحة، وهي المنطقة المعروفة  باثيوبيا التاريخية. وبلاد البربر من باضع (مصوع) وبربرة شمالا الى براوه جنوباً. ومن هؤلاء الجغرافيين والرحالة،  ابن خرداذبة المسعودي والإدريسي وياقوت الحموي الدمشقي، وابن سعيد وابن بطوطة وأبو الفداء والعمري، والمقريزي وغيرهم ويقدمون وصفا دقيقا لساحل بلاد البربر  وبرها بما فيها الجزر، والمدن. 

إن حدود الصومال التاريخية والطبيعة إذا ما استثنينا عن مناطق الدناكل أو العفار والذي  هو جزء لا يتجزأ من بلاد البربر سابقا تمتد من خليج تاجورا شمالا حتى بحيرة تانا جنوبا. أما مناطق الدناكل والعفار هو  المثلث الكبير بين الهضبة الإثيوبية من الغرب، ومجرى الهواش من الجنوب، ومجرى البحر الأحمر شرقا. ونهر عواش أو الهواش هو الذي يفصل بين العفار والصوماليين.

وفيما يتعلق بناحية البحر فإن حدودها تبدأ من خليج البربري شمالا (فإن خليج عدن كان يطلق عليه إسم الخليج البربري في البحر الأحمر الذي كان يسمى في السابق ببحر القلزم) وينتهي إلى خليج سوفالا في المحيط الهندي جنوبا.

عرّف القدماء بلاد ساحل القرن الأفريقي عبر القرون كما أسلفنا بعدة أسماء، عرّفها المصريون القدماء بأرض بنت أو أرض الآلهة ، وعرّفها الفينيقيون واليونانيون والرومان ببلاد البربر،  بينما أطلق عليها العرب منذ أن عرفوا هذه البلاد ببلاد البربر، واستمر استخدام هذا الاسم الأخير حتى القرن الثامن الهجري.  وبعد ما أصبحت شعوب بلاد البربر كلهم مسلمين  أخذت اسم  بلاد زيلع أو الزيالعة، واحيانا أطلقوا عليه إسم أرض جبرت، وربنا أشاروا إليها ببر العجم. يقول الدكتور محمد خليفة ركابي: إن كامل سواحل القرن الأفريقي باتت تعرف منذ بدايات القرن الثامن الهجري باسم بلاد الزيلع أو الزيالعة، ويؤكد ذلك جغرافي هذا العصر كابن الورد الذي قدم وصفا للبحر الأحمر في كتابه وذكر أن بلاد البربر تجاور الحبشة من الجنوب.انتهى.

 وصف ياقوت الحموي في عدة مواقع في كتابه  المناطق التي كانت تقع قبالة البحر الأحمر، وبلاد البربر حيث يقول “بحر القلزم وهو أيضا شعبة من بحر الهند أوله من بلاد البربر…”، وقال عند وصف زيلع: زيلع قرية على ساحل البحر من ناحية الحبشة فيها طوائف من المسلمين منهم ومن غيرهم. انتهى. و بعد ذلك يقدم وصفا لساحله الجنوبي قائلا ” وعلى ساحله الشرقي بلاد العرب فالداخل إليه يكون على يساره أواخر بلاد البربر ثم الزيلع ثم الحبشة ومنتهاه من هذه الجهة بلاد البجا الذين قدمنا ذكرهم، وعن يمينه عدن ثم يمتد حتى يتصل ببلاد الحبشة ثم الزيلع”انتهى.

ومن أوائل من أشار  إلى بلاد الصومال باسم البربر ابن خرداذبة، حين يقول عند حديثه عن خليج البربري : ومن هذه البحر خليج يخرج من أرض الحبشة يمتد إلى ناحية البربر،  يسمى الخليج البربري واصل الذي يبدأ منه في البحر الأعظم.  انتهى. وكذلك يُعد البكري (ت-٤٨٧ هجرية)  أول من أعطي إشارة واضحة في عصره استقلالية زيلع ومدن الساحل الشرقي لإفريقيا الأخرى عن الحبشة وتمتعها بحكم مستقل، حيث يقول: وبلاد الحبشة واسعة جدا ويتجهز إليهم التجار بالأمتعة من مصر واليمن وما يجاورها من بلاد زيلع، وباضع، وسواكن،  ودهلك،  وفي هذه المدن والجزائر، المسلمون والمساجد والحكام. انتهى .(د.ركابي مجلة المؤرخ العربي العدد ٢٦).

ثم نجد أخبارا أكثر وضوحا عند شيخ الربوة الدمشقي في كتابه نخب الدهر في عجائب البحر والبر، عن البحر الجنوبي المحيط والخليج الأكبر الخارج منه المسمى بإسم نواحيه.. في الفصل الأول بدأ بحديث طويل عن البحر الجنوبي وجزائره ووصفها وصفا دقيقا، كعادة الجغرافيين العرب يبدأ من الجنوب إلى الشمال ويذكر مقديشو الحمراء، ثم بحيرة بربرة حسب وصفه وجبل حافون وشدة هوله إلى أن يقول: ثم بأرض بربرة وبعض بلاد دمدم والحبش السفلى ثم بأرض جبرت ثم بأرض باضع ثم ساحل زنجبار ( يبدو أنه يقصد زنجبار اليمن) وأرض الزيلع ثم أرض اوتل…..إلى أن قال وهناك يخرج منه رِجْلٌ تُسمى شعبة القلزم وبحر القلزم  وبحر موسى وبحر المندب وبحر عدن ومخرجه ما بين اوتل وعدن بين جبلين ويمر بساحل هذا الرجل المسمى خليج قلزم ببر العجم؛ لأن البر الشرقي منه هو بر العرب وساحل بر العجم. انتهى.

يقول الدكتور محمد خليفة ركابي في بحثه القيم سالف الذكر: “ورغم تعدد الأماكن التي شاركتها نفس الإسم، إلا إن هذا الاسم كثيرا ما تكرر ذكره عند وصف المناطق الصومالية في مصنفات الجغرافيين والرحالة المسلمين، وذلك منذ بداية تدوينها في مطلع القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي). ولا يعني هذا أن اسم البربر الذي عرفت به بلاد الصومال ظهر في ذاك العصر؛ فالثابت من التراث التاريخي والجغرافي والأدبي واللغوي للحضارات القديمة التي سبقت الإسلام، يؤكد أن الأراضي الصومالية اشتهرت بهذا الاسم منذ القرن الأول الميلادي، وقد شاع تداوله حتى القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي)، ليحل بعده اسم بلاد الزيلع أو الزيالعة إلى ظهور الاسم الحالي (الصومال) في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي). وبالتالي، فإن تاريخ الصومال لم يكن مجهولا في العصور الإسلامية، بل كان مهملا، والمعلوم أن وصف البلاد ومواضعها، مظانه كتب الجغرافيا والبلدان ونحوها”.انتهى.

ويتضح ما أوردناه من كتابات الجغرافيين والرحالة القدماء من اليونانيين والرومان والعرب ثم الجغرافيين والرحالة المسلمين أهمية المنطقة القرن الأفريقي بسبب موقعها الاستراتيجي المتفرد،   وكانت ومازالت محط أنظار ومسرحا للتنافس بين القوى العالمية والإقليمية، وليس أدل في ذلك  من تنافس أربعة قوى أوروبية كبيرة (بريطانيا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا) اضافة الى إثيوبيا على بقعة صغيرة مثل الصومال،  وقد أردنا بذلك دحض مزاعم الجار الغربية الحبيسة، القديمة الجديدة حول حقها للحصول على منفذ بحري عبر المياه الإقليمية الصومالية، وبرهنا بطلانه بالأدلة التاريخية والبراهين من مصادر تاريخية وجغرافية متعددة من كتابات القدماء والمعاصرين جميعها تؤكد أن ساحل القرن الأفريقي كان منذ القدم صومالي ولم يكن يوما حبشيا.

 الحدود الإثيوبية المعاصرة كما نعرفها اليوم هي نتيجة التوسع بالقوة عقب خروج المصريين وقبلها الأتراك عن الصومال واريتريا، وذلك  بعهد يوهانس (1840  1851) ومنليك الثاني (1889 – 1913) وخاصة في عهد الرجل الأخير، حيث قام بتوسيع الحدود الإثيوبية من خلال استيلاء أراضي جنوب شرق وجنوب غرب إثيوبيا اليوم، والتي تسكنها مجموعات عرقية متنوعة ومختلفة، من بينها   الأورومية والصومالية،  بتواطؤ مع بريطانيا وإيطاليا. في الحقيقة، لم تكن الحدود مع إثيوبيا موجودة في فترة الاستعمار الأوروبي  في الخريطة حتى على الورق؛ لأنه لم تجرؤ القوى الاستعمارية ترسيمها بشكل منصف على الإطلاق ولأن الإمبراطورية الإثيوبية تدعي بشكل او بآخر أن كامل أراضي الصومال تابعة لها، خاصة اوغادينية والتي تعتبرها نوعًا من محمية للصيد(النهب والسلب) ومصدر ربح حيث فرضوا على الشعب الجزية والمكوس الباهظة إثر استيلائها  وقاموا بغارات بوتيرة عنيفة ومتكررة، على الرافضين عن دفع الجزية، بحثًا عن الماشية و”العبيد”. مما أجبر كثير من القبائل ترك مناطقهم والفرار إلى الصومال الإيطالي وسوف يأتي الحديث إلى هذا الموضوع بالتوسع في معرض حديثنا  عن الممالك الإسلامية التي قامت في بلاد الصومال وحدودها الجغرافية والسياسية وطبيعة علاقتها بالحبشة في السلم والحرب.

خالد إبراهيم

باحث في تاريخ الصومال
زر الذهاب إلى الأعلى