فكما في القرآن آيات محكمات واضحات المعاني بينات الدلائل، هن أم الكتاب، وآيات متشابهات حفيات الدلالة حمّالات أوجه، فكذلك في نصوص العلماء والأدباء والشعراء نصوص محكمات، لا التواء فيها ولا تعقيد، وانما الاّراء فيها مبثوثة،يسير فهمها، سهل تناولها، ذلول مسلكها، وفيها نصوص متشابهات، خفية معانيها، صعب استيعابها، وعر مسالكها، كثيف ظلالها.
وللناس منهجان في التعامل مع هذه النصوص: فمنهم من يركز على المتشابه، ويترك المحكم لحاجة في نفسه، إما ابتغاء الفتنة، او وصولا لأغراض معينة، أو تحقيقا لأحكام سابقة قد قرّت في نفسه، أو ما سوى ذلك من الأغراض التي تصب صوب إدانة المؤلف واتهامه، تعلقا بأي حبل يحقق له هذا المعنى، واتباعا لايّ طرق توصله لهذا المسلك، دون التفات إلى النصوص الأخرى الكثيرة المحكمة التي تناقض معاني النصوص المتشابهة التي اعتمدها للإدانة والاتهام.
ومنهم من من يقرأ النصوص مركزا على محكمها، معتمدا على الغالب منها، حاملا ما تشابه منها على ما استقر عنده من النصوص المتضافرة المحكمة، متأولا ما خفي من معانيها تاويلا يتوافق مع ظاهر نصوص المؤلف وأفكاره الواضحة التي بثها في ثنايا تواليفه. وان أعوزه الحمل او التأويل نظر في النص إن كان منثورا، أو البيت ان كان منظوماً، ويتثبت في صحة إسناده إلى المؤلف، ويبحث إن كان مدسوسا من قبل بعض الخصوم، وعلى الأخص اذا كانت تلك النصوص مخالفة لمعظم الأفكار التي أوردها المؤلف.
وعلى العموم، فلا ننسى عامل الشطحات فيما يكتبه الناس، فلكل شطحاته، ومن منا ليس له شطحات فكرية في مرحلة من مراحل عمره وتفكيره؟ الا من عطّل عقله واتّكل على عقل غيره، يفكر له نيابة عنه، فان زلّ صاحبه زلّ معه، وإن أصاب أصاب، وإن اخطأ أخطأ، وبين العبقرية والجنون شعرة معاوية، فان ارخاها نجا وأبدع، وان شدّها سقط وجنّ وشطح. ويمر الإنسان بمراحل مختلفة من حياته الفكرية، فيتطرف تارة الى اليمين، وتارة الى اليسار، ويعتدل طورا، ويخرج أطوارا عن طور الاعتدال، ولا نغفل عن دراسة أحواله النفسية، وأسباب تقلباته الفكرية، وعامل البيئة، والظروف الاجتماعية، وما يموج في محيطه من صراع الأفكار والآراء الفلسفية، واختلاف اصحاب المذاهب، وجدل علماء الكلام، وما إلى ذلك مما سيكون له تاثيره على نفسيته وافكاره بمقادير مختلفة وانصباء متفاوتة.
ينبغى لنا ان نضع نصب أعيننا جميع هذه العوامل والمراحل، لفهم نصوص المؤلف وتحليل معانيها وتفكيك دلالاتها، ونحن نقرأ آثاره الفقهية والأدبية والفلسفية، وعلى الأخص العلماء او الأدباء او الفلاسفة الذين ثار حولهم جدل المجادلين، وانقسم الناس في أمرهم، بين محبّ يرى قداسته، وبين مبغض يراه إبليس في صورة انسان؛ فاننا هنا تكون مسئوليتنا أكبر، والأمانة التي على عاتقنا أثقل، لنتحرى الإنصاف قدر الاستطاعة، فلا نميل كل الميل مع المحبين أو المبغضين، وإنما نجعل قصارى جهدنا أن ندرس النصوص أمامنا، وننسى علاقتنا بمؤلف النصوص حبا أو كرها، مع اعترافي بصعوبة ذلك، ان لم أقل استحالته، فان الإنسان ليس جلمود صخر يدرس عناصر الصخور الجامدة حوله، وإنما هو إنسان له عواطف ومشاعر وأحاسيس تقرّبه من بعض الأشخاص، وتنفّره من بعضهم الاخر.
فان كان الانفصال التام غير ممكن، فلا أقلّ من تخيل عزلة شعورية موقتة مع شخص المؤلف، نحاول فيها أن نتعرف على الأفكار الأساسية الثابتة للمؤلف التي لم تتغير طوال مراحل تقلباته، وإن كان قد تطرف الى اليمين او اليسار في بعض مراحله، كما نتعرف أيضا على الأفكار الثانوية المتغيرة التي تبرز في مراحل معينة من حياة المؤلف، ثم تختفي أو على الأقل يخفّ تأثيرها، فبذلك نقلل من الأحكام الصارمة التى يصدرها بعض الناس ضد أعلام الحضارة الاسلامية سواء أكانوا فقهاء او أدباء او متصوفين او فلاسفة. فلا يعقل ان نقرا مجلدا ضخما من مئات الصفحات، او ديوانا كبيرا من دواوين الشعر، يبث فيه المؤلف او الشاعر أفكاره في ثنايا كتابه او ديوانه، ثم نجتزيء جملة او جملتين او فقرة او فقرتين من الكتاب، او بيت او بيتين او ثلاث ابيات من ديوان الشاعر، متغافلين عن النصوص الأخرى الكثيرة الغالبة عمدا أو تجاهلا، ثم نجعل هذا القليل النادر أساسا وحكما يجب تعميمه لفهم أفكار المؤلف واتجاهاته الفلسفية.
وتلك لعمري قسمة ضيزى، وحكم جائر مبتسر يعود ضره علينا وعلى الإسهامات الفكرية لأعلام حضارتنا. ولا نعني بقولنا هذا الا نقوم بنقد تراث أسلافنا، ولكننا نعنى أن نقوم بنقد علمي يتجاوز الأحكام الدينية الكلية التي ترمى بعلوم كاملة ساهمت في تكوين الحضارة الاسلامية كإطلاق الاحكام على تحريم علم الكلام والفلسفة والمنطق والتصوف، او كإطلاق التهمة بالإلحاد والكفر والزندقة على أدباء وفلاسفة ومتكلمين ومتصوفين من اعلام حضارتنا. انني لا أتصور نهضة حقيقية لأمتنا من كبوتها حتى تعود الى تراثها بمعناه الشامل الفقهي والحديثي والصوفي والكلامي واللغوي والأدبي والفلسفي؛ فقد قامت حضارتنا الأولى على جميع هذه العلوم والفنون، ولن تقوم لنا حضارة في عصرنا الحاضر دون العودة الى هذا التراث احياء ودراسة واستيعابا، ثم ناخذ منه ما يفيدنا في نهضتنا المأمولة، وندع فيما ليس لنا فيه فائدة، ونفعل الشي نفسه في تراث الأمم الاخرى، خاصة الحضارة الغربية الغالبة اليوم، فليس هناك ما نخافه، فلدينا المعايير، ولدينا الميزان.