عبد النّاصر معلّم نور (عميرى)
مرّ الصومال بسنوات عجاف، ومحطات مظلمة ذاق فيها الشعب الصومالي من الويلات ما لا يطاق صراعات قبليّة وحروب أهليّة راح ضحيتها آلاف المواطنين. بدأت تلك الأزمة منذ أيام الاستعمار الذي أعتقد أنه السبب الرئيسي وراء الكوارث والمحن التي حلت بالصومال. مزّق البلاد وقسم إلى خمسة أجزاء ، ثلاثة منها كانت ترزح تحت وطأة الإستعمار البريطاني والإيطالي والفرنسي وجزئين كانتا تحت الاحتلال الإيثوبي والكيني واستمرت المشكلة حتى في عهد ما بعد الاستقلال، حيث أبتلى الشعب الصومالي بقيادات مدنية نواياها طيبة لكنّ ضعيفة الأداء. فشلت تلك القادة في تعقيم مرضى القبليّة والفساد عن منظومة دولتها الوليدة ما أدّى إلى إفلات زمام البلد من أيديهم ليسقط فجأة تحت نظام دكتاتوري حكم البلاد على مدى عقدين كاملين بقبضة من حديد وإلى أن ظهرت جبهات معارضة تهرول بالبنادق الرشاشة وتسعى إلى إنهاء النظام .
لم تكن تخطر فى حسبان الكثيرين أن النظام العسكري سيسقط بسهولة ولكنه إنتهى بالفعل على أيدي جبهات غير منظمة وغير مؤهلة لملئ الفراغ فتناطحت على كرسي السلطة وزجت البلاد في أتون حرب بزغ فجره فى يوم مشهود لكنّ شمس ذلك اليوم لم تغرب بعد!
فى ظلّ تلك الأيّام الحالكة ظهر تجّار حرب مدعومين من الخارج أوقدوا نارفتنة أحاطت البلاد إحاطة السوار بالمعصم، وحولتها إلى بؤرة موبوءة يدمي لها الجبين، ويشيب له الولدان قبل المشيب.
رغم كل هذه الأجواء المبلّدة بغيوم اليأس لم يفقد الصوماليون الأمل في مستقبلهم فكان أعظم ما شغل أذهانهم ولا يزال قضية إعادة بناء هيكل الدّولة الصومالية وتحقيق حلم الصومال الكبير في القرن الإفريقي. للأسف هذه القضية تعرض اليوم على مائدة شعارها لا للقبليّة وذروة سنامها المساواة إلّا أن الحقيقة عكسها تماما وقد يذكّرنى هذا الحال بقول معروف الرّصافى فى بداية ديوانه الدّين والوطن :
لايخدعنّك هتاف القوم بالوطن *** فالقوم فى السرّ غير القوم فى العلن
إنّ إعادة بناء هيكل الدّولة وفق هذا المعيار يقسم الشارع إلى متفائل يرسم طريقا يجعل هذا المعيار سرابا قريب المنال يلهث وراءه السياسى يمنة ويسرة حتى إذا جاءه لم يجده شيئا وإن وجد فعلى حساب أغلى مايملكه البلاد;السيادة والهوية، ومتشائم يرى إعادةبناء الدولة وفق هذا المعيار ضرب من الخيال.
إنّ المشكلة ليست فى السنوات التى ضاعت خلال العقود الثلاثة الماضية وإنّما تكمن فى السنوات القادمة التى ستضيع حتما طالما النخب السياسية – موالاة كانت أو معارضة– تحمل نفس العقلية المسيطرة على المشهد السياسي في البلاد منذأكثر من ٦٠ عاما.
ولنبدأ فى تصوير ممارسات هذه العقلية لتتضح أكثر. تظهر هذه الممارسات فى استحواذ أفراد قلّة على زمام السلطة والتي تبدأفور وصولها إلي الحكم مرحلة خلط الأوراق وانتهاز الفرص لإبرام صفقات مشبوهة فى ظلمة الليل… صفقات على حساب ثروات البلاد الطبيعية وحريّات المواطن.
والذّى يراجع فترة حكم الرئيس فرماجو التي ستنتهي قريبا، يتبيّن له حقيقة العقلية التي أشرنا إليها. رغم ما حقّق الرئيس من انجازات ملموسة على الصعيد الخارجي الا أنه فشل فى الإلتزام بالوعود التي قطعها على نفسه خلال حملته الانتخابية، بل بدأ بممارسة كل الاساليب لإسكات الطرف الآخر المعارض ناهيك عن تحقيق مطالب الشعب فى الدّاخل. لكن هذه السياسية لم تجدِ نفعا فى السنوات الثلا ثة الماضية غير الإصرار على تأجيل الانتخابات العامّة.
يدخل البلاد فى ضوء المعطيات الراهنه فى مرحلة خطيرة يصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور وخصوصا إذا ما أصرّ الرئيس فرماجو على عدم إجراء الانتخابات في الموعد المقرر دون التشاور مع المكونات السياسية الأخرى وعدم أخذ رأيها .
لا يحتاج المرء العادى فى الشارع إلى كثير من الذّكاء ليدرك أن الوقت المتبقى للحكومة الحالية لايتسع لإجراء إنتخابات مباشرة وإن كانت من الأمنيات المرجوة إعتبارها قيد التحقيق. فنحن فى الصومال ضمن الأنظمة العربية الأفريقية المهزومة فى كل أصعدة الحياة، عسكرية كانت أو سياسية، إجتماعية كانت أو تنموية إقتصادية، فكلّها أنظمة بلا إنجازات ولا مشاريع ولا انتصارات وحتى خطاباتها تفتقر إلى المصداقية ولا همّ لهم سوى البقاء على الحكم على حساب مستقبل الأمّة!
إن إقالة رئيس الوزراء من منصبه أواخر يوليو/تموز الماضى وفور انتهاء أعمال الجولة الثانية من مؤتمر“طوسمريب“أحدثت دويّا لم يكن فى الحسبان‘ وشكلت منعطفا خطيرا أدّى الى خلط العديد من الأوراق وتعقيد كثير من الملفات بما في ذلك ملف الانتخابات العامّة.
فالمعارضة بتوجهاتها المختلفة تقول إن إدّعاء الرئاسة بإجراء اقتراع شعبي مباشر فى الموعد المحدد إن دلّ على شيئ فإنما يدل على إستمرارها في استغباء العامّة لا أكثر. وكما قالوا قديما “إذا عُرف السبب بطل العجب“. فـ“خيرى“المقال من رئاسة الوزراء كان بمثابة “كبش الفداء“لتمرير ملف تأجيل الانتخابات. فيا ترى هل سيتمكن رئيس الوزراء القادم من معالجة القضايا العالقة إذا جاء من طرف الرئاسة دون غيرها! أم انه سيكون هذا المنصب من نصيب المعارضة بهدف تشكيل حكومة وفاق ذات قاعدة عريضة تمثل جميع الفرقاء في الساحة.
يبدو فى هذا المضمار ان الرئاسة قد تفشل إذا حاولت معالجة المشكلة قبل التشخيص!وحتى إن نجحت فى مثل هذه المحاولة فهذا لن يكون سوى ضربة من ضربات الحظّ السعيد! وفى النطام الإداري لايمكن الإعتماد على الحظّ السعيد.
يعتبر إيجاد الجو المناسب لاختيار شخصيات تتمتع بقدرات استثنائية على تحريك المياه الراكدة في الساحة الصومالية من أكثر ما يتمناه المواطن الصومالي، وأن الشريحة المثقّفة غالبا ما تنادي برحيل كافة الطبقة السياسية الموجودة حاليا لضعف بنيتها وإدارتها للمشهد السياسى وتورط بعضها فى قضايا فساد، ومن ثمّ سن قانون إنتخابات جديد يفرز طبقة سياسية جديدة عبر إنتخابات تكون على أسس وطنيةبعيدًا عن التدخلات الخارجية لاعطاء الفرص للمواطنين لإختيار قادتهم في ظل أجواء ديمقراطية حرّةوشفّافة.