الشعب الصومالي كسائر شعوب العالم يمتلك حقيبة مليئة بالتجارب؛ إذ شق في طريقه إلى الحياة عبر ظروف متنوعة من الآمال والآلام، والنجاحات والإخفاقات، والسلم والحرب، والجذب والقحط، كما أن للشعب الصومالي ثوابت من العقيدة والدين، والعادات والتقاليد التي تعكس على رؤيته في الكون والحياة.
ولكن الشعب واجه في الآونة الأخير ظروفا لم يجربها سالفا، ولم يخض في غمارها سابقا، بل لم يتصور يوما من الأيام أنه يمكن حدوثها؛ إذ قتل الجار جاره، وهجر أصهاره وأقربائه، واستخدم بعضهم لبعض أسلحة فتاكة تحصد أرواح الآلاف حصدا، وتَهدمُ البيوتَ على رؤوس عمارها هدما؛ واستعان بعضهم لبعض أعداء تقليديين، وأمما كافرين، وعصفت فيه فتنة هوجاء، وهي ظروف جديدة لم يعهدها الشعب المنصهر في بوتقة عقيدة واحدة، المنتمي إلى أصل واحد، وإلى لغة واحدة، ولون واحد، وتوفرت لديه جميع أسباب الوحدة والانسجام؛ ولكن برهن هذا الواقع أنه يمكن في أي مجتمع تأجيج صراع فيه لأجله مصالحه المختلفة، في القيادة والسلطة والثروة، وما ترتب على ذلك من المحسوبية والأثرة.
وإن مشكلة القبلية وما نشأ منها من آثار كثيرة من الظلم والمحسوبية، وحب الحكم والتسلط على الآخرين هي لب مشكلة الشعب الصومالي، وعنها نشأت جميع الآثار السلبية التي أسقطت الدولة الصومالية، وسببت الظلم والحروب الأهلية، وتركت في حسّ كل صومالي شيئا من عدم الثقة بعضهم بعضا، وعدم قبوله مرة أخرى بالتجربة المريرة المدوية التي اكتوى بنارها الشعب بدأ من يوم تحرره عن الاحتلال الأوروبي في الظاهر لا في الحقيقة.
فبالقبلية ظُلم الشعبُ، وبها أزهقت أرواح بريئة، وبها هجرت شعوب وسلبت أموالهم وأملاكهم، وبها ألغيت كل الاتفاقيات وكل المواثيق والعهود التي اتفق عليها الشعب، وأبرمته قادته.
وإذا نظرنا إلى هذا الداء العضال وأثره على اسقاط الدولة الصومالية بشيء من التعمق والفحص، نجد أن الشعب الصومالي الكبير أنه لم يسلم من أوضار هذا الداء إلا في فترة محدودة من المزمن كفترة المقاومة والقتال للتحرر التي وحدت الشعب لتحقيق هذا الهدف، الذي كان يتمناه أن تكتحل عينه يوما من الأيام، والأهداف العظيمة من طبعها أن توحد الشعوب وتنسي بنيات الطريق، وغالبا ما يصاحب في خضم ذلك حماسيات وعواطف هوجاء تعمي الناس عن الحقائق التي ستظهر بعد انقشاع سحاب الحماس، إلا أن الحماس سيتوقف عند تحقق الهدف، أو الوصول إلى بعض المكاسب التي كانت يرنوا إليها المجتمعات.
وإن كان هناك بعض الحذاق يدركون طبيعة ما بعد تحقيق الأهداف إلا أنهم غالبا لا يثيرون هذا الموضوع قبل أوانه لدى المجمع العام وإنما يضعون خططهم الخاصة لضامنة كيفية خطف ثمار هذه الجهود الشعبوية، والجهود المجهرية؛ ولذلك جهود المجتمعات – التي لا تتمتع باكتشاف المستقبل، وارهاصات المآلات، وقراءة التاريخ جيدا، وليس عندها مراكز البحوث والدراسات – يحلبها عدد محدود من النخبة، أو مجموعة تهيأت لذلك مبكرا واتخذت الوسائل التي تضمن لهم ذلك.
وهذا ما حصل للشعب الصومالي إذ بمجرد أن تحرر الشعب الصومالي عن الاحتلال الأوروبي شكليا في عام 1960م. لم يفق عن سكرة الفرح، وجذبة الحرية إلا على واقع أمرَّ من عهد الاحتلال، لم يكن هناك شيء أتفق عليه، ولم يكن هناك قانون نبع من إرادة الشعب الذي يحدد الصلاحيات، ويحفظ الحقوق، وينال رضا الجميع أو يقارب، وإنما كان هناك نظاما خلَّف ورائه المحتل وكان مبنيا على المحسوبية والقبلية، والفوضوية العارمة، والظلم الفاضح، ونتج من ذلك احتقان شديد، وفقدان بريق الحرية المنشودة؛ لأن الحرية التي لم يضبطها قانون، ولم يوجهها شرع فإنها ستتحول إلى فوضة مدمرة، وكارثة ماحقة، وفي رحم هذه الفوضة السائبة خرج أكثر من تمانين حزبا كلها مبنية على أيدلوجية قبلية عشائرية، ليست لها أهدافا أخرى إلا الوصول إلى سدة الحكم بأي ثمن كان، مما شوه سمعة الدولة الوليدة التي كان يتوقع أن يتنعم بناتها ومضحون لأجلها بالغالي والنفيس بالعدالة والحرية المنضبطة؛ ولكن خاب توقع هؤلاء عندما ترشح للبرلمان للعام 1969م أكثر من 1200مرشحا لمقاعد محدودة لا تتجاوز 123مقعدا. وكان تصارع القبائل على الحكم، ومقاعد مجلس الشعب يعوق تقدم البلد وخدمة الشعب، ويستنزف الطاقات والثروات مما خيب آمال كثير ممن حارب الاحتلال، وحرر البلد. حتى قال أحدهم وهو يعبر عن حزنه العميق بما آلت إليه الأمور:
لا فرق بين كافر طردتُّه
وبين مَن قعد دار مجلسه
لا أبتغي ذنباً وقولَه
لكنّ دولة صاح ولم أره
هذا الشاعر يعبر عن الصدمة التي أصابته بعد جهاد طويل، وتضحيات جسيمة، وكيف تحولت أمنياته أضغاث أحلام، حتى بلغ به الحال أنه لا يعرف الفرق بين الكافر الذي طرده عن البلد، وبين من تسلم سدة الحكم، ويحاول الشاعر أن يتصارع مع هذا الشعور وألا يبديه؛ لأنه يخاف تبعاته وأن يسوى بين كافر وبين مسلم فيتورط بتكفير مسلم؛ ولكنَّ الشيء الأكيد عنده: أنه لم تكتحل عينه بالمولود المرجوّ، والدولة المطلوبة المتوقعة لدى الشعب.
تصارع القبائل على الحكم والسلطة كان يشبه إلى حد كبير تصارعهم على الكلأ والماء، وكانوا يغيرون على الحكم إغارتهم على إبل بعضهم، لأن عادة الإغارة على إبل القبائل كانت عادة مترسخة عندهم، والإبل كانت أغلى ثرواتهم؛ لأنهم يدفعون به الديات، ويمهرون به النساء، ويذبحون به للعظيم، ويأكلون لحمه ويشربون حليبه، فهو سفينة الصحراء، وله غير ذلك من الفوائد ما لا يحاط بالعدِّ. وقد ذكر لي أحد المعمرين…… تابع..