وما ذا يفيد علم العالم ان كان منقادا لأهواء العامة ولا يستطيع ان يقول قولا لا يرضىهم ولا يصدر رأيا لا يوافق ميولهم وأهواءهم؟ رايت ان كثيرا من العلماء والمثقفين يفكرون في ردود افعال الناس اكثر مما يفكرون في قول الحق الذي ظهر لهم فيجهدون انفسهم الّا يقولوا كلاما يصادم قناعات الجماهير او يضاد ميول الراي العام. ويا ويل للعلم من الراي العام! وبا ويل للعلماء من مسايرة العوام!
رايت من نصّب نفسه لتوعية الجماهير، فاذا هو يسايرهم في معتقداتهم وبجاريهم في خرافاتهم. ولا ندرى هل هو غشاش يغش العوام ام ان ذلك مبلغه من العلم. رايت ممن يدّعون العلم وينزلون انفسهم منزلة المصلحين من قال ان كورونا عقوبة إلهية للبوذيين والمسيحيين واليهود والشيعة والملاحدة! فوالله، ان بعض العوام الذين يحتقرونهم ويدّعون انهم يرشدونهم الى سواء السبيل اهدى منهم قولا وأرجح عقلا. فالعاميّ الذي لم يطلب العلم ولم يحفظ المتون ولم يتصدّر لفتوى يفهم بفطرته السليمة سقم هذا القول ويزري من يسلك هذا المسلك ولو ادّعوا العلم وتباهوا بقدرتهم على توعية العوام.
ليس كل من ننبزه بعامي جاهلا، وليس كل من ندعوه عالما بعالم. فربّ رجل من العوام أعطاه الله فطرة سليمة وعقلا راجحا يقدر به على تمييز الخبيث من الطيب والموازنة بين الأقوال لمعرفة صحيحها من عليلها وزايفها من زخرفها. ورُبّ رجل افنى عمره في حلقات العلم ونال الشهادات والإجازات وسوّد الصحائف ولكن الله لم يعطه عقلا راجحا ولا فهما واسعا فهو يتخبط في شئونه وأحكامه خبط العشواء في الليلة الطلماء ويطلق كلامه كما اتفق لا تحس منه نور علم ولا قبسا من ضياء السماء ينير له الدجى ويهديه معالم الطريق.
مشكلة بعض العلماء انهم ليسوا بعلماء ولا بعوام وانما هم في منزلة بين المنزلتين، فلاهم من العلماء في سعة علمهم ودقة إفهامهم وبعد نظرهم، ولا هم من العوام في سلامة فطرتهم وصفاء قلوبهم واستقامة سليقتهم. ومن هنا كانت الطامة الكبرى والمصيبة العظمى لانهم تركوا منزلة العوام ولم يبلغوا درجة العلماء فأصبحوا معلقين مذبذبين كأصحاب الاعراف لا الى هولاء ولا الى هولاء حتى بجعل الله لهم سبيلا.
ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا. والحكمة – كما ورد في الاثار – ضالة المؤمن أنى وجدها فهو احق بها. فقد تأتينا من براهين الفلاسفة وحجج العلماء، وقد يجريها الله على افواه العوام والمجانين. فلا تحقرنّ من الحكمة شييا وان ظهرت في غير مظانها ولا تغتر بالهذر والهذيان وان جاءك من مظان العلم والحكمة. فان الحق لا يعرف بالرجال والجلباب والأزياء واللحى وانما يعرف الحق بالفطرة السليمة والبراهين القاطعة والصدق في القول والاخلاص في العمل. فلا يضرك الحق وان جاءك في ثوب ماحك ولا ينفعك الباطل وان تستر في ثوب ناصح.