كورونا فرصة للاعتبار والتحدث الى النفس ومعرفة الذات. فالإنسان يحاول جاهدا معرفة الآخرين وقضاياهم وشئونهم وأحوالهم ولكنه لا يحب ان يبذل جهدا مماثلا لمعرفة نفسه التي بين جوانحه والأقرب اليه من حبل الوريد. وقد يظن احدنا انه يعرف نفسه معرفة اليقين ولسان حاله يقول فما الحاجةالى معرفة المعروف؟ وقد تجمح به نفسه ويتوهم فيها الكمال، وفد يغالط نفسه في تصوره لذاته فيصاب بداء التضخم. ومن يخلو بنفسه في كل يوم ساعة او دقايق بل ثوان معدو ليحاسب فيها نفسه ويناحيها في خضم الأحداث المتسارعة والأهواء المتلاطمة والمصالح المتناقضة.
نكدح في نهارنا كله ونكد ونتعب ثم ناوي الى فراشنا ليلا وقد نال التعب من نفوسنا ودبّ النصب في أجسامنا فيغلب النوم على أجفاننا ويحسبنا الناس ايقاظا ونحن رقود فلا نجد وقتا لمحاسبة أنفسنا ولا مناجاة قلوبنا فكأننا صرعى الخندريس ولا نفيق الا ضحى اليوم العبوس. وهكذا دواليك ندور مع أنفسنا حيثما دارت ونجري وراء شهواتنا حيثما جرت ونفني أعمارنا في قضاء مصالحنا التي لا تنقضي حتى جاءنا كرونا فأيقظنا من الكرى وألبسنا لباس التقوى فقلب حياتنا رأسا على عقب وألزمنا البيوت في خوف وهلع وأزال عن أبصارنا الغبش وعن عيوننا العمش وعن قلوبنا الغشاوة فصار بصرنا اليوم حديدا نرى ما لم نكن نراه من قبل ونسمع ما لم نكن نسمعه وعدنا الى ذواتنا وأنفسنا التي صارت غريبة عنا فكأننا لا نعرفها ولا تعرفنا وننكرها وتنكرنا ولولا كورونا ما عدنا اليها ولا تناكرنا وبقينا عمرنا في سكرتنا ساهين.
ولكن ما لي ولنفسي وكيف اعرف نفسي بنفسي؟ ولولا كورونا ما واجهت نفسي بسؤال نفسي. وليس هناك اشد على الانسان من معرفة نفسه لانها ملتصقة به وقريبة منه. وكلما كان الشيي ملتصقا بك كانت رويته اصعب ومعرفته أبعد، فلا بد من خلق مسافة بينك وبين نفسك حتى ترى حقيقتها وتلمس معايبها، اما وانت ملتصق بها فلا تتعب نفسك بمعرفتها، فانك لن ترى الا المحاسن ولن ترى في غيرك الا الرذائل، ولكن من اين لنا هذا التجرد عن حظوظ النفس وشهواتها الامارة بالسوء؟ فقد جبل الانسان بحب نفسه وإطراءها والتنقص من غيره وتعبيره، فيرى القذى في عين أخيه ولا يرى الخشبة في عينه، وهذ من عجائب صنع الله في خلقه وأسراره في طبائع مخلوقاته.
ليس كورونا فرصة لتحسين علاقة الانسان مع نفسه فحسب ولكنه ايضا فرصة مؤاتية لتحسين علاقة الانسان مع اخيه الانسان. وباء كورونا عام بلا حدود لا تحده الأديان ولا الألوان ولا الالسن ولا الأصول ولا غير ذلك من الفوارق العارضة التي اصطنعها الانسان لتمييزه نفسه عن اخيه الانسان. كورونا أعاد الانسان الى تذكر هذا الشعور الإنساني الفطري الذى ران عليه عهود من الظلم والتظالم بين بني الانسان حتى استعبد الانسان اخاه الانسان وقتله وسلب ماله واحتل ارضة وادّعى بعضهم ان أعراقهم هي الاصل، واذا اطلق الانسان لا يراد به الا عرفهم وما عداها من الأعراق ليست الا قرودا في طور تطورها الطبيعي لتصبح إنسانا كاملاله حقوق الانسان في الحياة والتملك والكرامة الانسانية. فهذا كورونا اثبت ان الناس – مهما تضخمت بهم ذواتهم – ما زالوا في طور التطور والفروق بينهم ليست الا فروقا في الدرجة لا في النوع.
نرجوان يكون كورونا فرصة اخرى لتصحيح علاقة الانسان بأخيه الانسان والعودة الى الاخوة الانسانية الاولى والاعتراف بمساواة الناس في الحقوق الاساسية والكرامة الانسانية ونبذ الظلم بينهم وإحلال التعاون والتعارف محل العداء والكراهية.
وأخيرا، كورونا فرصة للعودة الى النفس والاقتراب منها ومصاحبتها ومصادقتها للتعويض عن الأعوام الطوال التي قطعنا معها حبال الود والدهور المديدة التي شغلتنا عنها أموالنا وأهلونا ومصالحنا وشهواتنا ، فهذا كورونا – مع بلائه – قد اهدى إلينا هدية العمر وأعاد علينا فرصة لا تعوض لتغيير سلوكنا وحياتنا وعلاقتنا مع أنفسنا ومع العالم حولنا.فهذا الوباء لا يعيد الانسان الى نفسه فحسب ولكنه يعيده ايضا الى أهله والى بيته والى أولاده، فهذه فرصة للتعرف على النفس وعلى الزوج وعلى الاولاد. ربّ ضارة نافعة. فلقد نسينا اهم الأشياء في حياتنا وهي أنفسنا وأولادنا وأزواجنا وها هو كورونا قد أجبرنا على العودة اليهم مضطرين صاغرين.
والله غالب على أمر ولكن اكثر الناس لا يعلمون.