وفي كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان: “كان ( الامام الزهري) إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله، فيشتغل بها عن كل شيء من أمور الدنيا، فقالت له امرأته يوما: والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر”. تكره المراة اشد الكره ان ترى زوجها منشغلا عنها بقراءة الكتب والمطالعة. وقد يكون الكتاب عندها ضرة أشدّ عليها من ضرائر النساء. فقد تصبر المراة على زوجها لضيق ذات يده او سوء معاملته لها او منعها بعض حقها او غير ذلك من الامور ولكنها يصعب عليها ان تصبر على انشغاله عنها بالكتب فهي تشعر ان ذلك بمثابة طعنة نجلاء في كبريائها وأنوثتها.
ولقد حُبّب اليّ القراءة وأجد فيها لذة روحية لا تساويها لذة اخرى من اللذات الحسية ومتعة لا تقارن بمتعة اخرى من متع الدنيا. واذا كان معي كتابي فانا ربّ الخورنق والسدير، وأستطيع ان أمكث في البيت شهرا او شهرين او ثلاث او الى ما شاء الله ان امكث من الايام والشهور، فلا اشعر بِوَحشة ولا إحس بوحدة، أحادثهم ان أردت الحديpث، وأستأنس بها عند الوحشة، وافزع اليها عند الملل والكآبة. واذا شرعت في قراءة كناب كأن نفسي تنسلخ عن هموم الدنيا وتدخل في حالة غيبوبة روحية تشبه غيبوبة المتصوفين المنقطعين عن الدنيا الذائبين في ذكر الله حتى لا يكون لهم وجود الا وحود الله بحيث لا اشعر فيها ذاتي ولا انتبه لما يحدث حولي.
وقد تأتيني زوجي او يأتيني أولادي وانا في لحظة من لحظات الاستغراق في القراءة فيسالونني عن شيي ولا اسمع ما يقولون، وقد اسمع احيانا ولكنني لا استوعب ولاأستطيع الرد عليهم خوفا من الانقطاع وتشتت الذهن ،خاصة اذا كنت في وسط استيعاب معنى من المعاني الدقيقة. وقد يحصل احيانا ان اردّ عليهم دون استيعاب قولهم، ويكون ردّي دايما موجزاً وبإيجاب الطلب، وذلك ليس قصدا للرد عن السؤال ولا ايجابا لطلبهم وانما افعل ذلك في أحايين كثيرة خوفا من الانقطاع وتخلصا من الأسئلة وإيثارا للاستمرار في القراءة.
ومما حدث لي من الطرائف في هذا الباب ان قد جاءني أولادي يوما معتكفا في زاوية من البيت اقرا مقالا ممتعا استلذ بقراءته فقالوا بابا: هل تأخذنا اليوم الى الحديقة للتنزه؟ ، فقلت على الفور No problem دون استيعاب طلبهم، فانصرفوا عني فرحين مسرورين. ولما انهيت المقال دعوتهم وقلت لهم: اعيدوا عليّ سؤالكم، فأعادوا عليَّ السؤال، فعرفت انني حكمت على نفسي وملزم بإنفاذ وعدي ولو أدّى ذلك الى تغيير جدولي.
وليس النساء وحدهن يكرهن الكتب وكل ما يشغل عنهن أزواجهن وانما الأطفال ايضا يكرهون الكتب وكل ما يشغل عنهم والدهم. وفي الامس القريب جاءتني بنيّتي الصغيرة وانا اقرأ فركبت ظهري حتى استوت على عاتقي مرسلة رجليها فوق صدري، فقالت: هيا، قم، فقلت انتظري يا بنيتي، فلاحظت انني اتصفح في هاتفي فجذبت نظارتي الطبية جذبة شديدة انخلعت لها طرفاها وركلت هاتفي فسقط بعيدا، فبقيت يوم امس مهموما كئيبا لا اقرا ولا اكتب، ولا أتصور عقوبة أشدّ على من تلك العقوبة، ولكنني فهمت الدرس جيدا، فاذا استوى طفلك على عاتقك فلا تتباطأ عن عمل ما يأمرك به والا ستندم ندامة الكسعي لما فارق النوار.
إنتي لم اتزوج على زوجي وليس لي معها ضرة من النساء تغار مني عليهن، ولكن عندي ضرة اشد عليها من النساء الا وهي الكتب. ولطالما رأتني منكبا على القراءة والكتابة منشغلا عنها وعن الاولاد وشئون البيت فاسمعها بين فينة واخرى تهدد وتوعد ( ليس بعيدا اليوم الذي سأرمي كتبك هذه من النافذة، واحطّم هاتفك هذا فاجعله هشيما تذروه الرياح، وسترى ذلك قريبا ان لم تغير شييا من سلوكك) واسمعها احيانا تستفهم استفهام توبيخ وانكار، ما هذا الذي تفعله؟ هل يرضيك هذا؟. عند ما اسمع ذلك اشعر بالذنب في قرارة نفسي وافهم تذمرها وشكواها ولكن كيف السبيل الى التغيرّ وقلبي معلق بحب القراءة؟ وقد صار التطبع طبيعة واصبحت الممارسة المكتسبة عادة جبلية مفطورة في التفس.
واذا رأت زوجي ان ذلك كله لا يغيّر شييا لجأت الى التخيير فإما ان تختارني او تختار هذه الأوراق. فعندئذ اعرف ان السيل قد بلغ الزبى وان المرجل قد غلي ولم يبق له الا الفوران فأحاول التهدئة واعترف لها خطيي وتقصيري في حقها وأعدها بتغيير يرضيها واجتهد قدر الإمكان ان اصلح ما افسده الكتاب وعطلته القراءة معطيا على مضض الجزء الأكبر من وقتي للاهل وشئون البيت، ولكن وما هي الا ايام قلائل حتى تعود حليمة الى عادتها القديمة ويابى الكتاب الا ان يأخذ مكان الصدارة في اهتماماتي . وفي النهاية عرفت زوجي ان هذه عادة متأصلة وراسخة في ذاتي يستحيل عليّ تغييرها فخففت عني بل صارت أكثر تفهما لموقفي صابرة محتسبة في ذلك الأجر عند الله. وربما عرفت ان ذلك من اخف الضررين، فاذا لم تتحمّل ضرة الكتب ووجدت فراغا من الوقت فقد افكر في ضرة حقيقية ضرة النساء وما يدريك ما الضرة؟ اسم على مسمى، ضرة في حياتها، وفي نفقتها، ضرة تشاركها في كل شيي وفي اهم ما تملكه وهو قلب زوجها؟
اعرف انi من حق اي زوجة ان تثور على الكتاب وافهم موقفها، واعرف كذلك ان من حق اي زوج ان يأخذ نصيبه من القراءة والتثقيف، والمحك هنا هو الاعتدال والميزان بحيث لا يتعدى احد الطرفين حدوده فيختل الميزان. ولا بد للزوج من معادلة متوازنة يراعي فيها حقوق زوجه واولاده، وفي الوقت عينه يراعي فيها حق نفسه في القراءة والمطالعة، فلنقسك عليك حق، ولزوجك وأولادك عليك حق، والعاقل من أعطى كل ذي حق حقه، ووازن الامور بميزان العدل والاعتدال.