يظهر الاستقراء التاريخي لحياة البشر منذ بدايتها إلى اليوم بأن الولايات التي تقوم بإدارة حياة الناس الدينية أو الدنيوية يمكن تقسيمها إلى ثلاث : ولاية أو إمامة دينية ودنيوية معا ، أو دينية فقط ، أو إمامة دنيوية فقط .
فالإمامة الدينية والدنيوية تعمل من أجل إقامة الدين وإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وتحرير الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ثم رعاية مصالح العباد الدنيوية على أساس العدل والمساواة ، ومحاربة الظلم وسيادة النظام وتوفير حاجات الناس الضرورية ، وحماية الأخلاق والمثل العليا ، ونشر الخير وتكثيره ، ومحاربة المنكر والرذيلة وتقليلها ، والتداول على السلطة على أساس الكفاية والمقدرة .
وهذا النوع من الإمامة الدينية والدنيوية لا يتمكن الوصول إليها إلا من جمع بين العلم الشرعي وخبرة معتبرة في فن القيادة ، ولأجل صعوبة وجود من تتوفر فيه هذه المواصفات لم يحز شرفها إلا الأنبياء والمرسلون وعدد قليل ممن شاهد التنزيل وعاصر التأويل كالخلفاء الأربعة وغيرهم من أصحاب وأتباع الأنبياء السابقين ، أو من صار على دربهم واقتفى أثرهم ، ولتأكيد هذا المعنى ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ) رواه مسلم ، وهؤلاء القوم لم يكن همهم الأول القيادة والتصدر ، بل كانت الإمامة بالنسبة لهم وسيلة لتحقيق العبودية لله تعالى وحده ، وحفظ الأنفس وحماية قوام الدنيا.
ولقد حدثنا القرءان الكريم عن عدد من الأنبياء الذين جمعوا بين إبلاغ الرسالة وإقامة الدنيا من والحكم وتولي الولاية العامة ، ومنهم سليمان وداوود عليهما السلام ، وآخرهم هو خاتم الأنبياء والمرسلين محمد (ص) الذي أقام دولة ترعى مصالح الدين والدنيا .
وأما الإمامة الدنيوية تُقام غالبا من أجل رعاية مصالح العباد الدنيوية ، وليس في قاموسها حفظ الدين والملة ، وتعتبر الدين أمرا شخصيا لا علاقة له في شأن الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتؤمن بمقولة “ الدين لله والوطن للجميع “ ، وقد تستخدم الدين في بعض الأحيان إذا كان يخدم مصالحها ومآربها .
وهذا النوع من الإمامة يتولى زمام قيادتها من يؤمن بالدين ومن لا يؤمن لأن نفعها لا يتجاوز حدود الدنيا ، ولذلك يعطيها الله تعالى الطائع والعاصي ، وفي الحديث الصحيح ( وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا من يحب ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ) أخرجه الحاكم.
وكثير من هذه الولايات لا تراعي عند تأسيسها وإقامتها الطرق المشروعة في بناء الدولة والنظام ، بل تمارس وترتكب صنوفا من الظلم والتعدي ، وتؤسس مجدها على جماجم الناس ، ولأجلها تزهق أرواح بريئة بدون سبب شرعي ، ومثل هذه الولايات ضررها أكثر من نفعها في الناحية الشرعية .
وهناك دول تأتي الإمامة عن طريق الانتخاب ويتم تداول السلطة فيها بصورة سلمية ولكنها لا تعير أي اهتمام لنشر الدين وحفظه ، وهذه أيضا نفعها دنيوي فقط .
وأما الإمامة الثالثة التي من سببها سطرنا هذه الكلمات هي الإمامة الدينية فقط التي لا علاقة لها بالملك أو الإدارة ، بل تتمحور حول العلم تعليما وتدريسا ونشرا وافتاءً ، ولا يحمل صاحبها إلا ما يحمل كتابه من معلومات أو يحوي صدره من معرفة ، قد يكون صاحب هذه الإمامة نبيا ورسولا ، أو عالما أو زاهدا ، وقد يكون غنيا أو فقيرا ، أو مشهورا ومعروفا بين الناس أو مغمورا لا يعرفه أحد ، وقد يكون معززا مكرما بين الناس وقد لا يكون كذلك ، ولكن الذي أوصله إلى مقام الإمامة في الدين هو علاقته الطيبة مع المولى جل في علاه ، لأن ( الصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ) كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ، ومصداق ذلك قول الله تعالى ﴿ وَجَعَلنا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدونَ بِأَمرِنا لَمّا صَبَروا وَكانوا بِآياتِنا يوقِنونَ﴾ السجدة ٢٤، وقوله تعالى ( ﴿وَجَعَلناهُم أَئِمَّةً يَهدونَ بِأَمرِنا وَأَوحَينا إِلَيهِم فِعلَ الخَيراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإيتاءَ الزَّكاةِ وَكانوا لَنا عابِدينَ ﴾ الأنبياء ٧٣.
واستحق خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام الإمامة والقيادة الدينية بعد أن نجح في الامتحان ، فقال تعالى ﴿ وَإِذِ ابتَلى إِبراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمامًا ﴾ البقرة ١٢٤ ، وقال تعالى ﴿ إِنَّ إِبراهيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنيفًا وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكينَ﴾ النحل ١٢٠ .
ولما طلب بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعيين قائد لهم ، اختار من بينهم طالوت ، ولكنهم اعترضوا عليه بكونه لم يكن ينتمي إلى الأسر المشهورة في القيادة والحكم وكونه فقيرا لا يملك مالا ، ولكن علل موسى عليه السلام بأن اختياره لم يكن بسب الجاه والمال بل بالعلم وتحمل المسؤولية ، فقال في ذلك ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصطَفاهُ عَلَيكُم وَزادَهُ بَسطَةً فِي العِلمِ وَالجِسمِ وَاللَّهُ يُؤتي مُلكَهُ مَن يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَليمٌ﴾ البقرة ٢٤٧.
العلماء والزهاد وغيرهم من أهل العلم من لدن الصحابة إلى اليوم هم قادة الأمة بلا منازع ولو لم يتولوا مناصب رسمية في المجتمع والدولة ولكن اكتسبوا هذه المكانة العلية بين الناس بسبب دينهم وعلمهم .
ولم تكن الحكومات تتساهل مع العلماء الذين يكتفون بعلمهم ولا يقبلون عطايات الحكام أو لا يدورون في فلكها أو لا يتجاوبون معها في كل ما يصدر عنها سواء كان حقا أم باطلا ، بل نصبت لهم العداء وفتحت السجون أمامهم وضيقت عليهم الخناق ، ومع ذلك ارتفع رصيدهم بين الأمة وصاروا رمزا للشرف والكرامة ، وأصبحت القلوب تعظمهم وتلهج الألسن بتعداد مآثرهم وترتفع الأيدي بالدعاء لهم مع تقادم الأيام والأعوام .
ولو ذهبنا نستعرض أسماء العلماء والزهاد وأهل العلم الذين ملكوا القلوب من دون سيف مشهور أو سوط مرفوع ، وأصبحوا أئمة حقيقين للأمة بلا منازع لطال بنا المقام ، ولكن سنذكر هنا بعض النماذج للتدليل على ذلك : فهذا الإمام المحدث عبدالله بن المبارك يزور مدينة الرقة ، وقد وصل إليها قبله أمير المؤمنين هارون الرشيد ، ولكن المدينة تخرج بأكملها من أجل استقباله والترحيب به في مشهد منقطع النظير ، فتعبر إحدى زوجات الأمير عن هذا المنظر فتقول بدون مواربة : “ هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان “ . تاريخ دمشق لابن عساكر .
وأما أئمة المذاهب الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد فقد حازوا السبق بالإمامة بلا منازع لها مع تعرضهم للإهانة والتضييق والحبس من قِبَل حكام وولاة زمانهم ، لعدم تجاوبهم مع المظالم التي كان يمارسها الحكام ، ومع ذلك انقرضت سلطة من كان بيده المال والسيف واندرس اسمه ورسمه ، وجعل الله تعالى للعلماء لسان صدق في الآخرين .
فهذا الإمام أبو إسحاق الشيرازي ، إبراهيم بن علي الفيروز ابادي ، صاحب المهذب والتنبيه في الفقه ، إمام الشافعية في زمانه ، ومقدم الفقهاء في عصره ، حتي قال أبو بكر الشاشي فيه “ أبو إسحاق حجة الله على أئمة العصر “ ، وقال الموفق الحنفي “ أبو إسحاق أمير المؤمنين في الفقهاء “ ، ومع ذلك كان فقيرا معدما لا يجد قوت يومه ، فإذا جاع أكل الخبز بماء الباقلاء ، ولم يتسنّ له الحج ، قال القاضي ابن هانئ : إمامان ما اتفق لهما الحج ، أبو إسحاق ، وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني . أما أبو إسحاق فكان فقيرا ، ولو أراده لحملوه على الأعناق ، والآخر لو أراده لأمكنه على السندس والإستبرق “ سير أعلام النبلاء ، انظر كيف رفع العلم من لا يستطيع توفير قوته اليومي ومع ذلك يحظى بالقبول وحمله على الأعناق أو المشي على الحرير .
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية مع علمه وفضله وإنصافه لمخالفيه يقاد للسجن من غير جريرة ارتكبها إلا بدافع الحسد والتضييق عليه والحيلولة بينه وبين الناس ، فيموت في داخل السجن ، ولكن يرتفع اسمه بعد موته وتنتشر مؤلفاته بين الأنام كانتشار النار في الهشيم ، ويصبح من أئمة العلم والهدي بلا منازع .
وأخيرا الإمامة الحقيقية التى لا تبلى ولا تهرم مع تقادم الزمان ، ولا يغيبها الموت أو العوز أو المرض هو الإمامة في العلم والدين والتقوى .