منذ وصولي إلى أرض السودان قبل عقد من الزمان وحتى هذه اللحظة يتملكني شعوراً بجهل الكثيرمن أسرار وخبايا تلك الدولة التي طاب لي العيش في ربوعها، ورغم حرصي على إقتناء ودراسة أقدم المراجع الأجنبية والعربية حول ما جاء في التاريخ السوداني القديم والحديث إلا إن ذات الشعور ما زال يغمرني ويدفعني دفعاً للبحث المتواصل وأوصلني إلى مُرافقة أعرق الكُتاب والمؤرخين السودانيين والإستماع إليهم ويطربني في مجالستهم ذلك التضاد الذي كنت ألمحة بينهم رغم أنه إختلاف في المعنى وليس في المضمون.
بعد نجاح الثورة السودانية في إسقاط الرئيس السابق عمرالبشير وليس نظامة وصلتني أصوات سودانية وإفريقية مُختلفة بعضها يعاتبني على تأييدي للحراك الشعبي وبعضها يطالبني بتفسير حقيقي للتدخل الخليجي في الشأن السوداني وما بين ذلك وذاك أجد السودان كبيرة على الإمتثال وعصية على التراجع، فذاك العتاب الهجومي الغاضب أسعدني لأنة جاءني من شخصيات ذات عقول مبرمجة، عقولٌ تم إعدادها سلفاً لمهمة نشر معتقد يؤمن أن زوال الحاكم هو زوال للوطن بأكملة فتوقفت عن مناقشتها لقناعتي بأن تلك العقول المبرمجة لن تدرك أن الوطن ليس النظام الحاكم ولن يكون فالوطن فوق النظام وفوق الحاكم وفوق كل شيء فالجميع يرحل ويبقى الوطن شامخاً لا ينكسر.
قبل الحديث عن التدخل الخليجي في الشأن السوداني سأحكي لكم قصة حدثت معي مع أحد رجالات الإعلام العرب الذي طلب مني ذات مرة أن أمثل منظمة خليجية في إحدى العواصم الإفريقية وعندما رفضت قال لي: “أن العلاقات الخليجية الإفريقية ستنجح وستصل إلى مدى بعيد خلال سنة من الأن“، فرددت علية قائلة: “لا يمكن أن تنجح تلك العلاقات إلا بإرادة أمريكية خالصة، فالعلاقات الخليجية الإفريقية متوقفة بما ستسمح به القوى الدولية أن يستمر وبالتالي لا يمكن الحديث عن مصالح ولا علاقات خليجية حقيقية في إفريقيا بمعزل عن دور القوى الدولية في تعزيز تلك المصالح أو إحباطها وللمختلفين معي في الرأي حق الرد“.
قبل الإطاحة بالرئيس البشير بثلاث سنوات كانت الخرطوم ترى أنها بعد أن شاركت مع قوات التحالف العربي أن المقابل لا يساوي خسارة جنودها في اليمن خاصة أن الشارع السوداني في مجملة يرى أن ما يجري من معارك ضارية في جنوب الجزيرة العربية ليست من شأنة وليست معركتة ولن تقدم للسودان كدولة الكثير وإن كانت ستقدم ثمناً للقيادات السياسية السودانية وهذا شأن أخر يتجادل فيه أهل المقرن، وهذه الرؤية أنعكست على مجتمع النخب السودانية والشارع السوداني الذي إنقسم في ذلك الوقت إلى ثلاثة أقسام :-
القسم الأول : يرى أن مصالحة متوافقة مع المحور الإماراتي السعودي المصري المدعوم أمريكياً وبالتالي بقاء الجنود السودانيين في اليمن في مقابل رفع العقوبات الأمريكية عن السودان بشكل كامل، والدعم المادي للخروج من الأزمة الإقتصادية المتفاقمة منذ إنفصال جنوب السودان عام 2011.
القسم الثاني: يرى ببقاء المصالح السودانية ضمن إطار المحورالتركي القطري المدعوم روسياً وإلى حد ما صينياً، وينادي بعودة الجنود السودانيين من اليمن، وإيجاد حل ولو جزئي للأزمة الإقتصادية، وهذة المجموعة تؤكد أن المجتمع السوداني تعايش مع العقوبات الأمريكية منذ سنوات طوال فلا ضير في إبقاءها أو رفعها.
القسم ثالث: مستقل ، يرى في الحياد طريقاً راشداً للحفاظ على مكتسبات الوطن، فهو ينادي بضرورة إستقلال مصالح السودان بعيداً عن أية محاور، والعمل على رفع العقوبات الأمريكية كاملة وبجهود دبلوماسية سودانية خالصة والتعاون مع المجتمع الدولي، وضرورة عودة الجنود السودانيين من اليمن، والعمل على إيجاد حل للأزمة الإقتصادية من داخل البيت السوداني عن طريق العدالة في توزيع الثروة والسلطة.
أدركت القوى الدولية منذ عقود أن ولادة القرن الإفريقي برؤية أمريكية لن يتحقق إلا عبر الخرطوم، فالسودان في الإستراتيجية الأمريكية هي المركز وما جاورها جغرافياً هي الأطراف بعد ضمانها، فبعد دور واشنطن ومن ورائها تل أبيب في المصالحة الأثيوبية الإرترية وما ترتبت علية من نتائج سلبية كانت أم إيجابية وجدت واشنطن في مرحلة ما بعد البشير الفرصة مُهيأة لإعادة إنتاج مسرحاً تتصادم فيه مصالح خصومها، والتحكم بخيوط اللعبة في القرن الإفريقي عن طريق حلفاءها، فهي لا ترغب بحكم مدني حقيقي في السودان، وترغب بإطالة أمد المجلس العسكري وإستلامة الحكم، وترسم خطاً لعلاقات سودانية جديدة مع محيطها الإفريقي والإقليمي فعدو الامس صديق اليوم والعكس صحيح، وزيارة بعض سفراء الإتحاد الأوروبي والسفير الأمريكي لساحة الإعتصام في الخرطوم لم يأتي دعماً لمطالب المتظاهرين بمقدار ما هو تبرئة لساحة واشنطن والغرب بشكل عام عند إمتلاء ساحة الإعتصام بدماء المتظاهرين، أما بالنسبة للتدخل الخليجي فهو جاء بإرادة إمريكية بحتة وهو ليس أصل في السودان ويجب أن يدرك الشارع السوداني ذلك جيداً .
التوقعات المحتملة
-.محلياً، من المرجح أن التنافس بين رئيس المجلس العسكري الإنتقالي عبد الفتاح البرهان ونائبة محمد حمدان دقلو الملقب بـــ“حميدتي” سيأخذ شكلاً أخر قريباً وسيكون في أوجة في الأيام القادمة وأعتقد أنه سيحسم لصالح شخصية ثالثة قد تكون “صلاح قوش” أو شخصية من شخصيات المجلس العسكري الانتقالي.
-.لن يخضع الرئيس السابق عمر البشير للمحاكمة في الخرطوم ولو خضع فسرعان ما سيخرج منها كما خرج سلفة الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك بريئاً كأنة لم يحكم مصر ثلاثون عاماً وسنشهد ذات الفكاهة التي تقول باللهجة المصرية ” خرج مبارك بريئاً من كل القضايا وبلا خطايا كيوم ولدتة أمه ده مكنش رايح يتحاكم ده كان رايح يحج “، أما دولياً، فلن يسلم البشير للمحكمة الجنائية الدولية إلا لو تصاعدت الضغوط الشعبية والدولية ولا أعتقد أن ذلك سيتم إلا عبر صفقة رغم قناعتي بأن ورقة البشير لن يتم المساومة عليها إلا في حالة رغبة واشنطن في كسب المزيد من الأوراق في الشارع السوداني خاصة بعد ظهور طبقة سودانية مثقفة داعمة لبعض التوجهات الأمريكية.
-.في حالة إستمرار الضغوط الشعبية المطالبة بحكم مدني فأعتقد أن المجلس العسكري وداعموه سيلجأون لحيلة أخرى لتهدئة الشارع السوداني وهي الإتيان بحاكم مدني“رمز“ لا يحكم ولكن سيأتي متوافقاً مع المجلس العسكري الذين سيحكم من وراء الستار ووفق رؤية معينة بحيث لا يخرج الحاكم المدني القادم عن السياق المحدد له خاصة أن الجوار الجغرافي للسودان ليس عاملاً مساعداً لأن يتخذ الرئيس السوداني القادم خطاً مُستقلاً إستقلالاً حقيقياً فهو بالطبع يريد تأمين الدولة إقتصادياً وتثبيت الحكم سياسياً.
-.ستجد واشنطن في المجلس العسكري بعد إستلامة الحكم في السودان طريقة لتسوية كافة الملفات “الخاصة” العالقة منذ حكم البشير، ومن ناحية أخرى لا أعتقد أنها ستتصادم بشكل حقيقي مع المصالح الصينية الروسية والفرنسية بل سيتم التنسيق فيما بينهم، وسيحقق المجلس العسكري مصالحة الخاصة من كلا المحوران: المحور الإماراتي السعودي المصري المدعوم أمريكياً، و من المحور التركي القطري المدعوم روسياً وصينياً، وسيجد العسكر في السودان نقطة مشتركة بين القوى الدولية التي تدير تلك المحاور وسيصلون لمرحلة يكون فيها الإستغناء عن عروض وخدمات تلك المحاور أمراً وارداً إن لم يكن مُلحاً.
-.على المدى القريب سيستمر التعاون الإقتصادي بين السودان ودول الخليج العربي أما ما يتعلق بالتعاون العسكري والأمني فهو متروك لتقديرات المرحلة القادمة التي سيعيشها السودان فإذا كان هناك تعاون عسكري أمني بين الطرفان فهو من وجهة نظري سيكون فيه تدرجات وثغرات كثيرة لا يعلمها الجانبان عن بعضهما البعض، أو بمعنى أصح الطرفان تنقصهم الثقة الكافية في بعضهما البعض والدور المصري سوف يعزز قلة هذه الثقة أو زيادتها بما يتفق مع المصالح المصرية في أثيوبيا (سد النهضة) أو في ليبيا (دعم حفتر)، ولا ننسى أن هناك عناصر أمنية سودانية سيبقى ولائها متجذر للنظام السابق وهي الأن من تقود المرحلة، فمن واقع خبرتي في الشأن الإفريقي فإن العسكر في الجيش السوداني والعناصر المدنية والعسكرية في جميع أجهزة الأمن والإستخبارات جميعهم ذوو خلفية أيديولوجية وتم إختيارهم على مدى ثلاثون عاماً على هذا الأساس، ولو إفترضنا أن تلك الأيديولوجيا متفاوتة من شخص لأخر فلا أعتقد أنها متفاوتة بشكل كبير وإلا لم يكن ليُقبل المرء في أقسام ومديريات أجهزة الأمن والمخابرات السودانية وبالتالي ستتوقف مواقفة وفق كل مرحلة، ولابد أن يكون له موقف مختلف يتوافق مع ما يعتنقة وإن كان مخالفاً لدول المحاور، فبتالي لا يمكن ترجمة ذلك التوجس الذي بدأ صداه يتضخم منادياً بإستبدال تلك العناصر وإن لزم الأمر بتصفيتهم.
أخيراً، أعتقد أن حالة الإستقرار السياسي والإقتصادي في السودان ستحتاج لفترة ليست بالقصيرة للعودة لسابق عهدها خاصة أن الشارع السوداني يمتلك من الأوراق ما يكفية للإستمرار بمطالبة السياسية أهمها ضعف المجلس العسكري وإنقسام رجالة، ودور القوى السياسية الفاعلة في السودان، ولو إفترضنا أن بعض الأطراف الإقليمية أو الدولية حاولت كسب تلك القوى لصالحها فستواجة الشارع، فالقوى السياسية في هذه المرحلة تدرك تماماً أن قوة تمثيلها الشعبي مرتبط بسلوكها على الأرض فبتالي لا ترغب بالدخول في مأزق أخلاقي يفقدها شعبيتها في هذة المرحلة الحرجة من عمر الوطن.
د.أمينة العريمي
باحثة إماراتية في الشأن الإفريقي
@gulf_afro