معلم محمد رجل في عقده الخامس، قضى حياته كلها مدرسا للدكسي (الكتاتيب) يقول عن نفسه: إضطرته الظروف الفرار من موطن ولادته في بادية مدينة جلالقسي وهو فتى يافعا بعد أن أكمل حفظ القرآن الكريم، ثم انتقل إلى مقديشو ليؤسس حياة جديدة، وليبدأ مهنته المفضله تدريس الخلاوي القرآنية.
بعد نجاح باهر وتخريج عدة دفعات من حفظة كتاب الله شاءت الأقدار أن تسقط العاصمة الصومالية على يد المليشيات القبلية وبدأت الحرب الأهلية التي لم يسلم منها أحد. فرَّ معلم محمد كغيره من الفارين من أتون الحرب الأهلية إلى نيروبي المركز التجاري الأشهر في إفريقيا الشرقية ومصنع البوفيس والقيل والقال.
لقي معلم محمد في نيروبي أول الأمر صعوبات كثيرة، وعانى تحديات جمة لكنه في نهاية المطاف نجح في التغلب عليها وتمكن من استصدار بطاقة شخصيىة مقابل مبالغ مالية، ثم بدأ في مزاولة وظيفته المفضلة تدريس الخلاوى القرآنية لأبناء الجالية الصومالية في كينيا.
حقق معلم محمد كعادته نجاحا باهرا وشهرة فائقة في نيروبي في غضون عدة أشهر، لكن وعلى الرغم من كل ذلك لم يطب له المقام في كينيا وقرر السفر منها إلى أرض الكنانة وقاهرة المعز قلعة العلم والمعرفة وذلك بإيعاز من قريب له كان يدرس هناك، وفور وصول معلم محمد القاهرة رتب أوراقه بسرعة والتحق بالأزهر الشريف، علاوة على ذلك لم يفوت الفرصة لمزاولة مهنته المفضلة تعليم أبناء الجالية الصومالية التي هربت من جحيم الغرب مرة أخرى .
وبما أن خلفية معلم محمد الأكاديمية لم تكن جيدة لم يحالفه الحظ لإكمال الدراسة الجامعية، وفشل في إنجاز مؤهل علمي منها. ثم حاول الفرار والتملص من هذا الوضع بعد أن حصل معظم زملائه مؤهلا جامعيا، وصعب عليه أن يرجع إلى مسقط رأسه بعد غياب طويل بلامال جمعه، ولامؤهل حصله، فقرر الهروب إلى المجهول، والركوب عباب البحر إلى أوروبا الغربية، أرض الأحلام!.
جاء الفرج من قريب وارتبط معلم محمد بأرملة صومالية تكبر منه بضع سنوات وتم ترتيب الزواج المصلحي بأمان. قَبِل معلم محمد هذا النوع من الزواج، وهذه المرأة التي فيها من الملاحظات ما لا يعد ولا يحصى فرارا من واقعه المر وهروبا من الكابوس الذي هو فيه. – تجدر الإشارة أن تقاليد عائلة معلم محمد لا تسمح لرجل أعزب مثله بأن يتزوج ثيبا أكبر منه سنا- ولا هو نفسه رضي بهذا الزواج لوكان في وسط عشيرته وموطن ولادته خاصة وأنه تأخر عن الزواج طيلة هذه المدة.
ومهما يكن من أمر وصل معلم محمد إلى إحدى دول أوروبا الغربية، وقبل أن يكمل فيها سنة لفظته البيئة والتوى بأجوائها (الطقس- البيئة- الأكل – اللغة- الوظيفة- البشر) القائمة تطول ولا تنتهي، كل شيء خلاف تقاليد معلم محمد وثقاقته، كل شيء غريب بالنسبة له حتى التواصل مع العالم الخارجي صار مشكلة، حينها بدأ خياله يفكر في شمس إفريقيا، مساجدها، الأصحاب، الحرية، إلخ.. والأشد من ذلك أن سيدة البيت قالت له بعد شهر من وصوله هيا بنا يامستر إلى السوق للبحث عن عمل لكي تساهم في أعباء وتعلقات البيت الكثيرة.
وجوده هنا مشكلة وقد كلف العائلة فاتورة كبيرة من قبل الإعانات الحكومية. البحث عن عمل.أي عمل؟ حلال عمل !، ولعلك تستغرب عزيزي القارئ سماع ذلك التعبير، لكن إضافة كلمة الحلال إلى الأسماء هنا في الديار الغربية يُكسِبها طعما خاصا. فمن الاعلانات الطريفة التي قرأت خلال وجودي هنا إعلان مكتوب فيه: حلال سباحة!. استغربت ولم أفهم العلاقة بين الحلال والسباحة، وكيف يُلحَق وصف الحل والحرمة بالسباحة ويشرح لي أحدهم المقصود من ذلك فيقول: إن بعض الهيئات الخيرية والمراكز الإسلامية تستأجر المسابح العامة عدة ساعات لجنس معين من أبناء الجالية المسلمة في نهاية عطلة الأسبوع مقابل أجر بسيط للحيلولة دون حدوث الاختلاط الممارس في أوقات الدوام الرسمي لهذه المسابح فسموه (حلال سباحة).
على كل حال نزل معلم محمد إلى السوق، ومن حسن الحظ لقي أحد دعاة المدينة في السوق وأخبر عنه أحواله وأنه مُحرَج ومطرود من البيت ولا يمكن له العودة إن لم يُحصِّل وظيفة اليوم . سأله الداعية: عن التعليم والمؤهل؟ الخبرة؟ إلخ أساسيات شروط التوظيف. السؤال عن المؤهل هي مصيبة معلم محمد لأنه فشل في التعليم الجامعي في مصر، فأجابه وباستحياء بأنه معلم دكسي وله خبرة وباع طويل في تعليم الصغار. فقال له الداعية: حسنا هناك فرصة كبيرة في هذا المجال، والمراكز الإسلامية في حاجة ماسة إلى أمثالكم إن لم يكن الحاجز اللغوي عقبة ومشكلة!.
بعد إجراءات بسيطة واستخراج بعض الأوراق الضرورية لمزاولة المهنة بدأ معلم محمد مهنة التدريس في الدكسي، لكن هذه المرة في أجواء وبيئة لا يعرفها، حتى الزبون الذي يتعامل معه ولأول مرة يجمعهم الإسلام فقط، خُصِص له مجموعة من الأطفال تحت عمر 15 سنة ، دخل الفصل ولم يعرف معلم محمد الخبير في تعليم الدكسي كيف يتصرف، الفصل لا يشبه الفصول التي تعود عليها، ولا القاعة تشبه تلك القاعات التي كان للمدرس فيها الكلمة الأولى واليد الطولى، هنا الطالب لا يستمع إلى المدرس، فضلا عن أن يكن له أي احترام أو يقدير، ولو حاول الأستاذ بسط سيطرته بالقوة سيكون مصيره السجن ويرمى وراء القضبان.
هذه البيئة ليست البيئة التي كان الطالب فيها يبجل الأستاذ، ويستمع إليه، ويخاف لو أخطأ أن يؤدب، هنا كل شيء غريب، كل شيء هنا عكس ما تعود عليه معلم محمد. المدرس تحت رحمة الطفل، الطالب لا تظهر منه قابلية التعليم، والفصل في عالم آخر، الطلاب لا يَعِرون له أي اهتمام، إنهالوا عليه بأسئلة عن اسمه؟ وعمره؟ وتاريخ ميلاده؟ وكيف احتفل آخر عيد ميلاد له؟ ومن أين هو؟ ومتى جاء إلى هذه البلاد؟ ولماذا جاء إلى هذه البلاد؟ ولماذا لا يفهم لغتهم؟ وأي من الأطعمة يفضل؟ وأي الأندية الرئيسية في البلد يشجع؟ ومن هو فنانه المفضل؟ ولماذا يلبس هذا النوع من اللباس؟ ومتى ستنتهي الحصة؟ ومتى الفسحة؟ ومتى تكون عطلة هذا الفصل الدراسي؟
تمالك معلم محمد وحاول أن يثبت سلطته في الفصل ولكن دون جدوى!، وتساءل عن نفسه كيف يخاطب؟ وبأي لغة؟ وأي الأساليب أنجع؟ ولماذا لا يوجد لديهم أي ضمير؟ ولماذا لا يكنون له أي احترام؟ ناهيك عن أن يخافوا منه؟ وتساءل أين هيبة الأستاذ؟ وكيف يكون هو الخائف؟ وكيف أن الأطفال يهددونه بأنهم سيبلغون عنه الشرطة، والهيئات التي ترعى حقوق الأطفال لو صدر منه أي تصرف ضدهم.
من جهة أخرى عمل معلم محمد مقاربة صغيرة واستحضر قيمة المدرس ووضعه الذي كان يعرفه وجرى في مخيلته عدة أسئلة: من كان المدرس؟ وكيف؟ ألم يكن المدرس الذي كان يسهر الليالي لإعداد الدروس؟ أولم يكن الأستاذ الذي كان يتعب النهار لإيصال رسالته إلى الطلاب؟ أوليس المدرس الذي كان يتأخر بعد الدوام في المكتب لتصحيح أوراق طلابه، إستشعارا بعظم المسئولية؟ أولم يكن المدرس الذي كان يلهث وراءه أولياء الأمور، ويطلبون منه الدعاء لأبنائهم لمكانته؟ أوليس الأستاذ الذي كان مستجاب الدعاء؟ أولم يكن الأستاذ الذي كان فوق الجميع؟ والجميع يتمنى رضاه؟ أسئلة حيرت معلم محمد ولم يجد لها جوابا. إنتهت مجالستي مع معلم محمد وتركته صابرا محتسبا مع أولاده المشاغبين ولسان حاله يقول:
Ar Farmaajo ii geeya , War Jalalaqsi igu celiya !!!!!!!!