إنه إنطلاقًا من هدف كل إنسان نبيل في منطقة القرن الإفريقي، في سعيه نحو نمو وتطور للمجتمعات التي التي ننتمي إليها، ومحاولة مد نطاق تلك الطاقة الإيجابية، والدافعة نحو تغيير موقع تلك الكتل البشرية المقيمة عبر وضمن الحدود المرسومة سياسيًا بين مكوناتها، المتجانسة على ضفتي الحدود، وداخل النطاقات والأقاليم داخل كل بلد على حدة، فإنه كان من المهم دائمًا فهم من نراه الآخر، حتى يمكننا استكمال فهمنا لذواتنا، وقد تكون تلك السمة الأبرز للتاريخ السياسي للجارة الشقيقة إثيوبيا، ففي الوقت الذي قضاه الصوماليون في إعادة استكشاف ذاتهم عبر تسخير قدراتهم في رسم خرائط “القوة” و”الضعف” المعتمدة على تباين القدرة في التحشيد والتنظيم، وإمضاء شريعة السلاح والتدمير.
دورة الستة والعشرين سنة!
فقد سعى نظام “ملس زيناوي” عبر الائتلاف الموسع الذي بذل جهود كبيرة في خلقه، وإن بدى في نظر الكثيرين صوريًا، إلّا أنّه أدّى إلى حد كبير في تجنيب إثيوبيا الكثير من المعاناة والخسائر، معتمدًا على الموقف الدولي من “الكيان الإثيوبي” الذي مر بمراحل يفصل بينها ربع قرن في كل مرحلة “ستة وعشرون عامًا” على وجه التحديد، بدءًا من انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1948، وصولًا للإطاحة بالنظام الملكي المتصلّب، والذي استنزفت قدراته محاولة التوفيق بين مركزية الدولة، ومقاومة الفئات الإقطاعية والكنسية، واستمرار ارهاق المزارعين بالضرائب، ما أدّى بالفئات المتعلمة التي تمت صناعتها لتكون بديلًا للنبلاء، إلى إسقاط الملك وعزله وذلك في العام 1974م، ولم يطل الأمر بحكومة الـ”ديرغ” والنظام الشمولي لمنجيستو هيلامريام، إلا أن سقط بيد الجبهات الثائرة بعد ربع قرن آخر، بما يجعلنا اليوم نستشعر النمط الزمني الذي يتكرر في “إثيوبيا”، والذي يجد أرضية مستعدة لاحتضانه والعمل في الاستفادة من الضمانة الدولية التي ـ تبدو ـ لا تتزعزع في ضرورة الحفاظ على الكيان الإثيوبي كما تمت وراثته من العهد الملكي.
تراجع العلاقة بالضامنين
يجعل الروابط التقليدية التي قامت عليها العلاقات الإثيوبية مع الضامنين الدوليين، تتغير بصورة تفرض فهمًا جديدًا لحقيقة مكونات الكيان الإثيوبي، والذي أفرز حالة تتجه نحو اضمحلال القناة التقليدية التي كانت تشكل الصلة الأساسية لأعماق الدولة الإثيوبية، من بعدما كانت تضم هيكل الدولة الكلي ما قبل الحرب العالمية الأولى ممثلة بالثنائية “الزمنية والروحية/ الملكية والكنيسة”، منتقلًا ذلك الدور إلى المؤسسة اليروقراطية الأمهرية، والتي لم يكن للعسكر المنقلبين أي بدٍّ من التعايش معها، بحيث بقي النظام العسكري مجرد درع خارجي، لمنظومة ثابتة تعمل كالساعة داخله، على الرغم من أن استمرر اصطدام العنصر العسكري بها وتقليمها، حتى سقوطه بداية التسعينيات ودخول عناصر جديدة، كانت منذ قرون مستبعدة عن السلطة والتأثير، وحدوث حالة من النضح والاستبدال لمكونات “الساعة الداخلية” للمؤسسة البيروقراطية، بكل ما كانت تمثله من امتداد وارث لقيم “الملكيي-الكنسي”، مؤديا لتراجع الإيمان بقدسية الدولة الإثيوبية، مع الإبعاد في علمنة الحكم، واندثار الأجيال الأقدم التي وجدت في تمسكها بتلك العقيدة، مقاومة صامتة لوحشية نظام “الدرغ” وعلى رأسه “منجيستو هيلامريام”، ما فتح الباب أمام مبدأ تقاسم الغنائم، لدى قادة الفصائل العسكرية التي أوصلت “ملس زيناوي” إلى السلطة.
تفشي الفساد عامل هدم أضافي
لقد كان جليًا خلال العقدين الذين تولى فيهما “ملس زيناوي” مقاليد الحكم في إثيوبيا، أن قلب الرجل وعقله غدى النظام الأساسي ليس فقط للحفاظ على تماسك الكيان الإثيوبي، بل ونجاح مشروعه الفيدرالي الذي كان من المرجو أن يحقق درجة من الشعور بالانتماء لدى كل الفئات والمجموعات والقوميات والشعوب التي اجتمعت أراضيها ضمن سيادة الدولة الإثيوبية، إلّا أن نظام الغنائم الذي تم عبره تحييد القادة العسكريين للحركات والجبهات التي ساهمت في سقوط نظام الـ”درغ”، أدى إلى انتشار حالة من الانتهازية السياسية، بحيث أصبحت القيادات الموقرة في الدولة، خصوصًا رجالها الأقوياء في الأقاليم، قدوت سيئيين في عرقلة العمل والتجارة والإنتاج، مادام لا يطالهم من كل تلك الأنشطة نصيب، بما يعيد إلى الأذهان النظام الإقطاعي القديم، أو نظام الخوّات والفدى الذي كان معتمدًا لدى زعماء المجموعات المتمردة على السلطة في المناطق الجبلية الحرشية على مدى فترة غير قصيرة من تاريخ البلاد،دون أن تكون وعورة التضاريس وكثافة الغابات مصدر الحماية من الملاحقة والعقاب، إنما حالة غض الطرف التي سمحت لؤلئك المسؤولين على مستوياتهم كافة، في الإفلات من العقاب في حين تتشد الدولة مع فساد الموظفين الأقل مكانة، والمتأثرين بما يرونه من رفاهية رؤسائهم في بلد يحتاج إلى كل موارده، لتتمكن الدولة من خدمة أبنائه الذي يتزايدون بصورة تفوق كل الخطط وما يمكن توقعه من موارد.
العامل الديمغرافي يقول كلمته
وعلى الرغم من فاعلية ما يبدو “ضمانة” أبدية لأطراف دولية، وأنها ضمانة لا تتزعزع من أجل سلامة الكيان الإثيوبي، فإن الواقع الديمغرافي، الذي يتحرك تاريخيًا لصالح العناصر البشرية التي عانت ولازالت تعاني من التهميش والتفقير، فإنه لا يبدو في الأفق وجود حل سحري لعوامل عدم الاستقرار، والحالة التي تسير نحوها البلاد، بحيث يبقى أقصى ما يمكن للأطراف الدولية فعله، التعجيل بنهاية النظم القائمة، باتجاه انتقال سلس للسلطة إلى أيدي أكثر الأطراف تنظيمًا، ضمن الكتلة العارمة في غضبها، والتي قد يصبح أحد دوافعها، المطالبة بكل شيء، أو عدم الإبقاء على شيء.