لعل كثيراً منا لم يستوعب بعد عمق الصراع الطويل المستنزف في بلدنا، وأغلب التحليلات عن وضعنا البائس تركّز بشكل أساسيّ على قراءات اعتباطية وسطحية ، ومن الغريب أن بعض(المحللين) يصفون الوضع المتأزم بما يحلو لهم(أي بما يتوافق مع إيديولوجياتهم السياسية) أو يتناغم مع التطلعات السياسية لعشائرهم، وكأن الجميع اتفقوا على العيش في هذا الوضع البائس، بدون تمرد على السلوكيات السالبة للمجتمع.
فإذا نظرنا إلى التاريخ الحديث للصوماليين منذ نشوء الدولة الصومالية (1960- إلى يومنا هذا، فإننا نجد أن العقلية البدوية التى تتميز بـ” الأنا ” تنطلق من مبدأ القوة أو الأكثرية في أفراد العشيرة التى كانت تسيطر على مخيلة المجتمع، ونُقِلت هذه القيم الاجتماعية المبنيّة على السلب، والنهب، وقتل “الآخر الضعيف” لأسباب تافهة– بحيث لا يوجد قانون رادع- إلى فضاء الدولة الجديدة في الستينات، مما جعل الدولة مسرحاً يتناطح فيه زعماء العشائر لتأمين حقوق قبيلتهم، لأجل ذلك أصاب العطب التجربة المدنية في الصومال (1960-1969) بعد تأسيس تجمعات الأحزاب السياسية التى كونت بمعايير عصبية إقصائية، وليس بمعايير المواطنة وتحقيق مصالح الوطن. وبسهولة انزلق الوطن إلى رحمة نظام الحزب الواحد، وألغى نظام “بري” كثيراً من حقوق المجتمع واشتهر بالتضييق على الحريات، وتصفية كل من لم يؤيد نظامه الاشتراكي.
وتجلّت نماذج حيّة لهذه الظاهرة (إلغاء الآخر) – بشكل خاص- فيما بعدالنظام الشمولي لسياد بري، حيث دُمرت كافة مؤسسات الدولة تحت ذريعة (القبيلة)، وطفت على السطح أسس الصراع القبائلي الذي شكّل مشكلة الصومال الحديثة. ونجد ان اعتماد المحاصصة القبلية كنظام سياسي موحد ما هو إلا أحد تجليات ثقافة إلغاء الآخر. وتقنينها– كما هو سارٍ – يرشح وجود مشكلة اجتماعية تتطلب معالجة سريعة، قبل أن تؤدي إلى تفكك المجتمع وضياع أمله.
ويري ابن خلدون:”أن المجتمعات الطبيعية (المجتمعات البدوية) لا يمكن أن تنشأ منها دولة ولا حكم سياسي”، وهذا مما يمكن أن يفسر التصادمات المستمرة للحكومات الصُومالية في السنوات الماضية، وذلك بسبب غياب حكم سياسي يلبي مصالح المواطنين.
فبعد هذا السرد السريع لتاريخ الدولة الصومالية في عصورها المختلفة، فإننا نعرف أن ثقافة إلغاء الآخرلم تكن منحصرة – كما يظن البعض – في فترة ما بعد سياد بري أو حقبة الحكم المدنيّ، بل كانت متجذرة في قيم البداوة التى نقدسها، ولعب الجانب الأدبي دوراً بارزاً في تأجيج الصراع القبائلي وترسيخ مفهوم إلغاء الآخر (الضعيف) في نفس المجتمع الصُوماليّ.
ومن الملاحظ أن الـ ” أنا” المتضخمة تعطي لصاحبها تبريرات واهية لمحو الـ”آخر” (المختلف) أو (المنافس)؛ وإقصائه من وجوده– إن أراد الجانب الأقوى ذلك- لتحقيق امتيازات آنية. وبالتالي فإن تهميش الآخر الضعيف ليست منحصرة في الأروقة السياسة ودهاليزها فقط، بل تتعداها إلى جوانب عدة؛ منها الجانب التجاري (الاقتصادي)، بحيث أن الشركات الصغيرة التي تحاول جاهدة وضع قدميها في سوق العمل ليست بمأمن من مجابهة القدماء في هذا المجال، ما يجعلها فريسة سهلة لتصفية أعضائها، وكذلك فإن المناصب الإدراية وفرص العمل ذات الدخل المالي مرتفع بات أصحابها عُرضة للإقصاء والتصفية الجسدية، فعقلية البداوة (الأنانية وحب الذات) تظهر مرة أخرى بثوب جديد في “المدينة-الحضر”، وبالتالي فإن نقل أدبيات البدويّة إلى الحضر يصعب مجابهته، كما يؤخر بناء دولة مدنية حضرية تتبنى قبول الآخر المختلف بأريحية.
وأخيرا.. لا يمكننا أن نقدم حلولا جذرية لأزمة الدولة في وطننا؛ ما لم نحدّ من ظاهرة إلغاء الآخر المتغلغلة في الكيان الثقافي للأمة، وأن التزاوج غير الشرعي بين قيم البدواة والحضرأنتجت لنا هذا الصراع الصفري الطويل، وتجاوزه مرهون بمدى احترام وتقدير الآخر (المختلف) وسيادة مبادئ العدل والمساواة بين المواطنين.