قلب نابض في أكثر من ميدان:
وصل فضيلة الشيخ إبراهيم حاشي محمود رحمه الله إلى الصومال في وقت كان الوطن تحت وطأة الاستعمار – كما ذكرنا سابقاً – فكان ينصب جلّ تفكيره وضع البلاد بعد اجلاء الاستعمار الوشيك، بل ويحسّ بأنّ الصومال بحاجة إلى مثله من المثقفين، ومن هنا لم يأل جهداً في سبيل تطوير الوطن في أكثر من مجال، بحيث كان يقدم نصائح مفيدة يمكن أن يبنى المجتمع على أسس قوية ومتينة من التقدم الاقتصادي، والثقافي، والاجتماعي وما إلى ذلك، ولاسيما كان يركز على النواحي الاقتصادية بحيث كان يهتم في تشغيل الأيادي العاملة المتعطلة، فأوصى بإنشاء مشروعات صناعية لاملاء هذا الفراغ ولاستغلال ثروات البلاد الطبيعية عن طريق استثمار رؤوس الأموال المحلية، وبالقروض من قبل الهيئات الدولية كالبنك الدولي بغية الاستثمار والتعمير، كما أشار فضيلته إلى برامج مساعدة الدول المتخلفة اقتصادياً في الأمم المتحدة ومن الدول الصديقة، على أن تكون هذه المساعدة غير مشروطة بأية شروط سياسية. وحثّ الشيخ إبراهيم أن تقوم بأنشاء مشروعات رزاعية في ضفاف البلاد، واستغلال المواد الأولية، وكذا الاستفادة من الحيوانات المتوحشة التي تزخر بها بلادنا، ويعني ذلك إنشاء حديقة الحيوان، لأنّه كان يرى بأنّ هذه الوسائل وغيرها يؤدي إلى الحالة الاجتماعية، وتنمية الاقتصاد القومي. ويدل ذلك على أفقه الواسع في تلك الفترة المبكرة، واستفادته ما شاهده في مصر من التطور والرقي خلال دراسته هناك.
وفي مجال التعليم فقد قدم نصائه للمختصين في تغيير المناهج التعليمية بعد حصول الاستقلال والوحدة بين الإقليم الشمالي والإقليم الجنوبي، وكان يرى وجوب ذلك وأن لا مجال للنقاش حتى يتمّ نبذ آثار الاستعمار البريطاني في الشمال والإيطالي في الجنوب، بل أن يظهر في الساحة التعليمية الصومالية نظام تعليمي مستقل ينبع من واقع البيئة الصومالية يحقق حاجات المجتمع الصومالي في دراسة تاريخه، وفلسفته، وآدابه ، وقيمه الإجتماعية والدينية.. وأكثر من ذلك فقد أوحى الشيخ إبراهيم إلى بعض أفكار في هذا المنحى بحيث نصح وضع مقررات جديدة للسنوات الدراسية المقبلة بعد استقلال البلاد بحيث يدرس فيها التاريخ القومي ، والتربية الوطنية ، وضرورة اعتماد أساتذة صوماليين في تدريس هاتين المادتين. الذين يعرفون ظروف بلادهم وحاجاتها. كما قدم الشيخ نصائح في تشكيل لجان فرعية مكونة من خبراء النظم التعليمية الحديثة لوضع الخطوط الرئيسية للبرامج التعلمية، ودراسة الوسائل التي تحقق ذلك، إضافة إلى تشكيل لجان أخرى من قبل وزارة العدل لانشاء نظام قضائي مبني على قواعد قانونية تكفل نتظيم السلطة القضائية في الدولة الديمقراطية بحيث تأخذ شكلها القانوني في تنظيم اختصاصات السلطات الدستورية في الدولة… ونادى الشيخ رحمه الله توحيد المحاكم الشرعية، والمدنية بحيث يكون في كل مركز محكمة ابتدائية مخطلة تنظر في قضايا الأحوال الشخصية كما تنظر في القضايا المدنية، والتجارية بواسطة قضاة شرعيين ومدنيين على أن يكون الحكم فيها متمشياً مع قواعد الشريعة والفقه الإسلاميين ، كما طالب صوملة المحكمة العليا.
وعن جهود الشيخ إبراهيم حاشي في المجال الصحي ذكر الشيخ في كتابه ” كفاح الحياة” بأنّ الأطباء الأجانب وخاصة الإيطاليين كانوا يتولون عملية الكشف، وعلاج المرضى في الوطن على حسب هواهم، وهو كأي مستعمر أوروبي لا يخلصون في أعمالهم في علاج الرجل الأسود علاجاً كافياً، ودقيقاً، وفي وقت لم يكن يوجد من أهل الصومال من يحمل مؤهلات عالية في الطب أو الهندسة أو حتى المحامات، وأنّ البعثات التعليمية التي أرسلت إلى الخارج لم ترجع بعد، ومن هنا لم يتمالك فضيلته حتى كتب مقالاً مثيراً في هذا المنحى بغية توعية الناس وتذكير الدولة الفتية بمسؤولياتها تجاه الوطن والمواطنين، وقد نشر المقال في جريدة اللواء في عددها 14 من سبتمبر عام 1959م بعنوان: ” شكوى المرضى في مستشفى دي مرتينو“. وذكر في مقاله هذا المعاناة التي يعيش فيها المرضى في المستشفى وكذا الأوضاع المتردية لهم، وطلب الشيخ في مقالته هذه عدة أشياء أهمها:
- جعل الفحص الطبي مجاناً في المستشفى المركزي دي مارتينو وإلغاء الكشف من الخارج كوسيلة للدخول في المستشفى المركزي.
- إجراء تحقيق عاجل للاهمال السائد في المستشفى، وعدم العناية بالمرضى ووضع حد لهذا.
- انتذاب أطباء ماهرين، مدربين للعمليات الجراحية، وأمراض العيون، والنساء.
- تدريب الممرضين، والممرضات الصوماليين على تعليم أسس التمريض الصحيح، وتنظيم دروس خاصة لهم في معاملة المرضى.
- فصل المرضى بالسل عن غيرهم حتى لا يكون هناك مجال للعدوىز
وفي آخر المقال ترجى الشيخ للسيد وزير الصحة التوفيق والسداد في الخطوات التي سيتخذها في هذا الشأن. وما أن نشر المقال حتى جنّ الأطباء الايطاليين ، والعمال في مستشفى دي مرتينو لأن هذا الانتقاذ هو أول انتقاذ عملي وجه إليهم بواسطة الصحف ، ولقي ترحيباً حاراً من جهة الجمهور الذين كانوا يعرفون ظروف المستشفى، وتدهور الحالة الصحية فيه. ونتيجة لهذا المقال المثير قام الأطباء والعمال بحملة تنظيف واسعة النطاق في جميع عنابر المستشفى، وأصبح المقال منبهة لجميع الأطباء في المستشفى، والوحدات التابعة له في صوماليا، كما حصل مثل هذا التنظيف في مستشفى الأمراض الصدرية في لازاريتي بمقديشو. وقد اضطر السيد وزير الصحة الشيخ علي جمعالي زيارة مفاجئة للمستشفى وتفقد أحوال المرضى ووضع المستشفى ثم طالب الوزير الأطباء والعمال بإعادة النظر في أعمالهم ، والاهتمام الجدوى لعلاج الناس، وإلا فسيضطر إلى اتخاذ الاجراءات اللازمة لضمان سير في مجراها الطبيعي، ثم التقى الوزير مع الشيخ إبراهيم يناقش معه عما حدث والتحقيق لما نشر عن المستشفى، وقد عرض الشيخ إبراهيم أخبار نتائج اللقاء مع معالي الوزير عبر مقال آخر في جريدة اللواء في عدد 12 أكتوبر عام 1959م تحت عنوان: ” وزير الصحة يزور مستشفى دي مرتينو بمقديشو“.
وبعد ذلك طلب الوزير مرة أخرى اللقاء مع الشيخ بحضرة وكيل الوزارة المحترم آدم شري جامع مناقشاً الأوضاع الصحية وأحوال مراكز الصحة وعلى رأسهم مستشفى المذكور وما جرى له من اصلاح على ضوء ما نشر الشيخ إبراهيم في صحيفة اللواء، وقد أبدى الوزير اهتماماً كبيراً لنصائح الشيخ وأطروحاته العقلانية وتحركاته الوطنية في فترة لا يوجد في العاصمة مقديشو إلا سبعة وحدات طبية تابعة للوزارة تسمى امبلاتوربا ويشرف على كل وحدتين أو ثلاثة طبيب ايطالي بالإضافة إلى مساعد صومالي في كل وحدة.
هكذا كان الشيخ إبراهيم يتفاعل الأحداث الداخلية للوطن في فترة عصيبة قبيل استقلال البلاد وبعدها، ورآى أن تحسين القوانين وضبط النظام سوف يسود الأمة إلى الرفاهية والرخاء بشرط أن يعيش الناس تحت القانون والعدالة الاجتماعية، وعندما انتهت مناقشات الجمعية الدستورية أعمالها في صياغة مسودة الدستور الذي أعدته اللجنة السياسية في 26 مايو عام 1960م، غير أن الشيخ لاحظ أن مشروع تلك اللجنة قد أدخلت فيه عدة تغييرات وأن بعض هذه التغييرات لم تعجبه، فعارضها عند مناقشتها في الجمعية ولكن جاءت الموافقة على عكس ما كان يريد، فعبر عن ذلك بكل صراحة في مقال نشرته جريدة الوحدة التي كان يصدرها حزب وحدة الشباب الصومالي تحت عنوان: ” حول الدستور الجديد“، وقد جاءت لفت نظر فيما بعد من المجلس الاستشاري للأمم المتحدة بالصومال على بعض هذه النقاط، وكل هذه الجهود الحركة الذؤوب كان هذفها في تنسيق مواد الدستور، وصياغيتها في صورة فنية حديثة تتلائم تماماً في ظروف، وبيئة المجتمع الصومالي الناشئ وتتناسب في الوقت نفسه وروح التطور الحضاري والديمقراطي الذي يمتاز به القرن العشرين، ومع معارضة الشيخ سير أعمال اللجنة المذكورة إلا أنّه أيد الدستور في صيغته الحالية، ودعى الناس للموافقة عليه عند الاستفتاء، مما يدل على حبه للوطن واستقرار البلاد وعدم إثارة البلبلة السياسية في دولية حديث العهد في الاستقلال، مع هذا لم يكن مقتنعاً بالأمر الواقع فواصل نشاطه في هذه الناحية، بل وألف لأجلها بحثاً مستقلاً بمناسبة الدورة الدراسية التي نظمتها وزارة العدل الصومالية للقضاة المدنيين في عام 1959م، وسماه ” النظم القانونية للمرافعات الشرعية“.
ورحم الله الشيخ إبراهيم حاشي محمود كان حقاً قلباً نابضاً حقيقياً في أكثر من ميدان من ميادين الحياة المتنوعة لبلادنا الصومال.