لم تعد مقديشوا عاصمة البلاد، تحتفظ بذات السمعة السيئة التي اقترنت بها منذ سقوط الحكومة عام 1991، حيث تبدوا الآن أن الأمان عاد إليها نسبيا، وهذا الأمر لا يصدقه كثير من الناس في ظل الإعلام الذي يركز على الجانب السلبية فقط من الأحداث، لكن الواقع في مقديشوا الحالية بات مختلفا تماما حيث يمكن القول بأن مقدار الأمن فيها أفضل من مثيلاتها في عواصم كثير من دول العالم، وقد ساهم في ذلك الوعي الاجتماعي الذي صار يدرك أهمية استعادة الأمان لمجاراة تطور المدن والمحافظات الأخرى في البلاد.
من المسلّم به أن التطور الحضاري والمعماري لأيّ مجتمع يقترن اقترانا مباشرا بالاستقرار والأمان الضروريين لتحقيق التقدّم والازدهار في شتى المجالات، وينطبق ذلك بصورة أوضح على المجتمع الصومالي الذي فقد مقومات الحياة فضلا عن ضرورات التقدم منذ انزلاقه في فوضى الحروب والنزاعات الأهلية، والتضرر الذي لحق البنية التحتية مباشرة بعد سقوط الحكم المركزي للبلاد، قبل أن يعود ليضع قدميه على طريق الخروج من هاوية الفوضى ويستعيد بعض عافيته.
بعد عقود طويلة من الدمار وانعدام الأمن اتخذ المشهد العام شكلا جديدا من الاستقرار بعد وضع الدولة الصومالية مسألة الأمن على رأس أولوياتها خلال السنوات الأخيرة، مما عزّز من الوعي الاجتماعي لخطورة الفوضى على مستقبل البلاد، وقد أثمرت تلك الجهود نسبيا في تحقيق الأمن، باستثناء الحوادث التي تحدث أحيانا والتي لا يمكن اعتبارها حائلا دون استمرار الجهود الأخرى في سبيل الإعمار والنهضة.
بعد التقدم الذي حصل على الصعيد الأمني في مقديشوا- وفي ظل التكاتف الشعبي مع الحكومة والتعاون الأشقاء والأصدقاء معها–تم إنجاز مشاريع إعمارية كبرى خلال السنتين الماضيتين من بناء بعض الطرق والشوارع الكبرى، وأرصفتها، وتشييد المباني الحكومية المهمة، وإعادة بناء المستشفيات على الطراز الحديث، وتنظيف الشوارع والطرقات القديمة، مثلما تمّ بناء مطار مقديشوا العالمي من جديد بصورة حديثة وتوسعة الميناء.
من زارَ مقديشوا قبل نحو ثلاث سنوات أو أربعة، بل قبل سنتين، وزارها مجدداً خلال هذه الفترة، سيلاحظ التغيرات الكبيرة التي شهدتها المدينة في شنتى المجالات، تغير مظهر المدينة وزاد عددسكانها، واختفت مشاهد الدمار، مثلما اختفت أصوات الرصاص والمدافع.
في زيارتي الأخيرة للعاصمة وخلال تجوالي فيها تلمست ذلك التطور الحاصل في مختلف المجالات عن قرب، حيث شاهدت الترميم الجاري في الشوارع، والتنظيف اليومي لها، ورأيت المستشفيات المفتوحة حديثا مزودة بالآلات الحديثة اللازمة، والبنوك العالمية التي افتتحت مؤخرا، وقمت بزيارة المراكز والجامعات المختلة التي تقدم التخصصات العلمية المتنوعة، مما شجعني على الاعتقاد بخروج البلاد بنسبة كبيرة من كبوتها وتعافيها من مرضها.
يذكر أن الحكومة التركية ساهمت بقوة في أعمال التشييد والبناء الجارية في العاصمة، بل وقامت بتمويل وتنفيذ العديد من المشاريع الحيوية بالتنسيق مع الحكومة الصومالية، كما ساهمت في دعم القطاعات التعليمية والاقتصادية والاجتماعية بشكل كبير، ويعدّ ذلك مساهمة أخوية من الشعب التركي للشعب الصومالي من أجل النهوض ودفع عجلة التنمية إلى الأمام.
في موازاة هذا التطور يشهد التعليم في العاصمة تطورا ملحوظا من خلال تزايد عدد المنتظمين في سلك التعليم الجامعي وفق ما تؤكده روايات مسؤولي الجامعات ومدراءها ، وتضاعف أعداد الملتحقين بالمدارس الأساسية والإعدادية والثانوية في الفترة الأخيرة،مما يعتبر خروجا من مرحلة الجهل المطبق نتيجة الحروب والأزمات الداخلية، حيث أن الجامعات إزدادت بكثرة والخيارات متاحة أمام الطالب الجامعي.
على الصعيد الاجتماعي بات المجتمع المقدشاوي أكثر انفتاحا وتقبلا للآخر في بلد شهد حروبا وصراعات قبلية طاحنة، حيث يمكن اعتبار ذلك دليلا على نضج المجتمع في مقديشوا واستدباره للمحنة التي عاش بها بكل ما انطوت عليه من خلافات وتفرقة بين المجتمع الصومالي الموحد .
ومع استتباب الأمن في البلاد شرع كثير من أبناء المدينة المغتربين بالعودة إليها مجددا للمشاركة في عملية البناء ودفع عجلة التنمية نحو الأمام، باستثمار أموالهم في العاصمة والمساهمة في رفع الاقتصاد الوطني.
كما أن كثيرا من الطلاب الذين ذهبوا للتعلم خارج البلاد عادوا حاملين معهم ثروة علمية تحتاج إليها البلاد في نهضتها الجديدة، فيما شارك كثيرون منهم في تشكيلات الحكومة الفدرالية المتعاقبة، منخرطين في النظام السياسي في البلاد.
ينظر كثير من أبناء العاصمة إلى المستقبل بعين الأمل والشعور بزوال عهد الفوضى، متمنين أن تمضي الحكومة قدما في المشاريع الوطنية التي شرعت بها، وأن يعمل المجتمع من أجل إحداث التغيير المنشود لكي تصل الرسالة للعالم وتخطو البلاد نحو رسم صورة جديدة للصومال في الخريطة ووضع ملامح الدولة الحقيقية عليها.