الصراع على المال والجاه عادة قديمة تعود من بداية الخليقة ، ويتجدد هذا الصراع كلما هوى وتقهقر وضعف الوازع الديني لدى الأفراد والمجتمعات، وصارت علية القوم ومن شاكلهم روادَّ هذه المهلكة ، وتضعف هذه المعركة ويخبو أوار نارِّها كلما ارتفع الرصيد الإيماني والزهد عن الدنيا وزخارفها لذي المجتمعات ، وقد تضمحل وتتلاشى كلما فكر الإنسان بما وراء هذه الحياة وأشغل نفسه بما يحقق خلاصها من التبعات ، وتكونت لديه حصانة من اقتحام أسلاكها ، أو التنازع والتجاذب مع أهلها ، لأنها لا تعدو قدرها إلا سقط المتاع ، وقد أحسن من قال في شأنها وحال أهلها :
وما هي إلا جِيفةُ مستحيلةُ عليها كلابُ هَمُّهن اجتِذابها
فإن تجتنبها كنت سِلما لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها
فطوبى لنفسٍ أُودعت قعر دارها مُغَلَّقَةَ الأبوابِ مُرخىً حجابها .
ولذلك نَبَّه الخليفة معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – ابنه يزيد لما مهد له الطريق وأخذ البيعة له بأن عبد الله بن عمر بن الخطاب لن يشكل أي معارضة في ظل ولايته لأن العبادة أشغلته عن غيرها ، وابن عمر أهل للولاية والإمارة ، وأفضل مِن يزيد ، وقد تجمعت فيه كل الخصال المطلوبة في تولى الولاية ، ولكنه آثر الباقية على الفانية ، ومن كان شأنه كذلك لا ينافس في الجاه والمال .
ولما حج سليمان بن عبد الملك التقى في الطواف وداخل الحرم العالم والزاهد سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب – من فقهاء المدينة السبعة – وعرض عليه إن كان لديه حاجة أن يسألها ، فقال إني استحيي ربي أن أسأل غيره في داخل بيته( الكعبة ) ، فمضى سليمان في طوافه ، ثم لقيه ثانية في خارج الحرم ، فقال له نحن الآن في خارج الحرم هلا سألت حاجتك ؟ ، قال سالم أمن حاجة الدنيا أو الأخرة ! ، قال سليمان : الدنيا … طبعا – لأن الأخرة بيد الملك الجبَّار – ، فأجاب سليمان بكل ثقة : فإني لا أسأل الدنيا من يملكها ، فكيف أسألها من لا يملكها ، فمضى سليمان في طريقه وقد أسكتته أجوبة الفقيه الزاهد .
ويشكل الصراع على المال والتصدر والجاه اليوم من العقبات الرئيسة التي لا تخطيء العين وتدور رحاها في الدائرة الضيقة بين رجالاتالسياسة والثقافة والعلم إلا من رحم ربك ، حتي وصل اللهيب إلى الساحة الدعوية ، فأصبح التيار الإسلامي هدفا سهل المنال من قبل معارضي ومبغضي العمل الإسلامي المنظم .
ولأجل خطورة هذا المسلك حذرنا نبينا صلى الله عليه من سلوك هذا المنزلق الخطير ، فقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ( ما ذئبان جائعان أُرسِلا في غنَمٍ، بأفسَدَ لها من حِرص المرء على المالِ والشرف لدينه )، حديث صحيح . ويكشف لنا هذا الحديث الجانب المخفي من سلوك الإنسان المتطلع والباحث عن المال والشرف والجاه والسلطان من غيرإكثرات لدين أو خلق أو حتي الخوف بأن هذا الأمر الذي أقدم عليه وأصبح يهون دونه الدين والعفاف قد لا يتمكن الشخص من الاستمتاع والتلذذ به ، لأن هادم اللذات قد يحول بينه وبين ما أراد ، أو تأتيه أفة سماوية تذهب بكل ما جمع أو يفقد ماله بفعل فاعل من أقرب الناس إليه .
ولا يؤاخذ على الإنسان الحب الجبلي للمال والجاه والسؤدد ما لم يتجاوز الحدود أو ينتهك الحرمات ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) ، ويكون المال محمودا إذا جاء من غير استشراف له ( وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك ) .
وكان بعض الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – امتنعوا استلام عطياتهم من بيت المال لأنهم بايعوا المصطفى صلى الله عليه وسلم على أن لا يسألوا أحدا شيئا .
وفي قول الله تعالى ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ،قد استنبط بعض العلماء إلى تقسيم الناس في طلب المال والجاه على أربعة :
الأول : لا يريدون العلو ولا الجاه ولا الرئاسة ولا التصدر ، فضلا عن الفساد والإفساد ، وهم أهل الإيمان الخلص ، الذين أثروا الباقية على الفانية ، فيكفيهم ما تحملوا من الآثام ، ولا يريدون أن يزيدوا حِملا على أثقالهم ، فهم في أعلى المراتب .
الثاني : قوم عندهم دين وإيمان ، وليس في معجمهم الفساد ولا الإساءة لأحد، ولكنهم ابتلوا بحب التصدر والاستعلاء على الناس ، وحب الرئاسة مرض وشهوة خفية لا يتفطن لها أحد ، وهؤلاء القوم على خير ولكنهم دون الأول .
الثالث : يريدون العُلـوَّ على الناس والفساد في الأرض ، بإشاعة الفاحشة ، وتشجيع الظلم ، وتكريم الفسقة ، وهؤلاء يتقدمهم فرعون ونمرود ومن سلك مسلكهم من الملوك والرؤساء الظالمون ، وقال الله تعالى: ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ )، وهؤلاء هم شرُّ الخَلق
الرابع : همهم الأول والأخير هو الفساد في الأرض ، وليس لهم مطمع في الرئاسة والعلو في الأرض كاللصوص والسراق وقطاع الطريق وعتاد المجرمين الذين ينهبون بما في أيدي الناس ، وهؤلاء من سفلة الناس عقلا وشرعا .
إذا فالعاقل هو الذي يسعى لما يعود عليه بالنفع ، ولا يُقحم نفسه بما لا يحمد عقباه .