إذا كانت علاقة الشيخ محمد السرور الصّبان بالسلطان وبالذات مع الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل السعود بدأت بالمعارضة نتيجة ميله إلى جانب الأشراف عند دخول الملك بالحجاز – كما أشرنا في الحلقة السابقة – حتى أٌبعد عن بلاط الملك، رغم أنّ هذه العلاقة تحسنت فيما بعد ولكن مع أولاد عبد العزير كمثل الملك سعود والملك فيصل – رحمهم الله جميعا – حتى أسند إليه بعض الحقائب الوزارية ثم رئاسة الأمانة العامة للرابطة الإسلامية ، إذا كانت علاقته بدأت بهذا الشكل من التوتر والفتور فإن هناك ممن كانت أصولهم تنحدر من منطقة القرن الإفريقي قبل الصبّان من توطأت علاقتهم مع القادة وأولياء الأمور في البلدان العربية ووثقت سواء في اليمن ومصر والشام وغير ذلك.(
ومن البديهي أن العلماء لم يكونوا منعزلين عن السلاطين ماداموا على الشريعة والدين ، ويتجلى في ذلك عندما وصل هؤلاء العلماء إلى أطراف أخرى من خارج الوطن توثقت علاقتهم بالسلطان، بل كان بعض هؤلاء العلماء محبوباً لدى الأمراء والسلاطين ومقرباً في بلاطهم ومجالسهم ، لدا ، فلا يستغرب أن يسند لبعض منهم مناصب عالية ، إدارية كانت أو سياسية ، كالقاضي محمد ابن مومن الذي أصبح وزيراً للسلطان المجاهد جمال الدين ، سلطان اليمن وقائدها، بل ووصل الأمر إلى درجة مثّل السلطان وصار سفيراً له لدى الديار المصرية أيام السلطان الناصر محمد بن قلاون سنة 725هـ ، في أحلك الظروف حيث طلب سلطان اليمن من السلطان الناصر بن قلاون النصرة والتأييد حينما نشب نزاع مرير بين المجاهد وابن عمه ، الطاهر عبد الله بن أيّوب ، فقد نجح السفير القاضي في هذه المهمة وأداها بكل حنكة وقدرة ، بل واستطاع السفير أن يقنع سلطان مصر الناصر محمد بن قلاون بإرسال قوية عسكرية تناصر وتساند المجاهد على ابن عمه الذي خرج عليه ، لتكون مدداً له ، وقد وصل القاضي إلى أرض اليمن مع العساكر المصرية في شهر رجب سنة 725هـ ، كما رجح ذلك با مخرمة في كتابه ثغر عدن (1) .
ومما يؤكد علاقة القاضي محمد بن مومن مع السلطان اليمني أنه ترأس مرة أخرى سفارة من قبل السلطان إلى مصر حاملاً معه الهدايا يريد أن يقدمه إلى سلطان مصر ، وذلك ليقدم الشيخ شكره للسطان مقابل ما قام به من العون والمساعدة العسكرية ، وكان ذلك في ذي القعدة في نفس السنة ، وكان مسير هذه البعثة أو السفارة في البحر من ساحل زبيد ، غير أنه عاد إلى اليمن في ذي القعدة من سنة 726هـ ومعه ثلاثون مملوكاً هدية . والفقيه محمد بن مؤمن كان يجد عند المجاهد جمال الدين قبولاً واحتراماً كبيراً ، ويدل على ذلك أنه اسند إليه مرة أخرى ولاية القضاء الأكبر، كما اسند إليه إحدى وزارات السلطنة مع إمداده بعطاء وإقطاع جيداً ،غير أن علاقة الفقيه مع السلطان المجاهد تدهورت وساءت حين حدث خلافات بين الجانبين بسبب ما قيل للسلطان من جانب القاضي حتى قتل في التَعْكَر سنة خمس أو ست أو سبع وثلاثين وسبعمائة . ومهما كان فإن محمد بن مومن كان فقيهاً ظريفاً حسن الخط كبير النفس عالي الهمّة… و في الغالب كانت سيرته محمودة ولاسيما في أمر الفقهاء والوقف وكان صادق القول لم يخلف قولاً ولم ينطق بسَفَهٍ (2). وهذه الصفات الحسنة والأخلاق الحميدة لعلها جذبت السلطان المجاهد الملقب بجمال الدين حتى أجعله من أقرب الناس إليه يثق بهم ويوكل إليهم أكبر مهام دولته ، ومن جانب آخر فالفقيه محمد بن مومن كان يبادله نفس هذا الإحساس من الثقة والمحبة والإخلاص ،حيث ترقت همته إلى الخدمة السلطانية حتى صار من أكابر رؤسائها (3 ).
وإذا كان الشيخ محمد بن مومن قد حمل لواء السفارة في عهد السلطان المجاهد في اليمن ومثّلها في مصر، فإن هناك من مثّل راية سلطنة إفات في القرن الإفريقي إلى الديار المصرية وفي أحلك الظروف كما فعل ذلك الشيخ عبد الله الزيلعي ، مما يدل على براعة القوم وحنكتهم السياسية بحيث مثلوا الأمة عند ما وقع عليهم الاختيار أمام المحافل الدولية . ولا غرابة في ذلك لأنّ الشيخ عبد الله الزيلعي أحد فضائل المسلمين في سلطنة إفات ، بل واشتهر بأنّه راوية أخبار الجهاد مع الأحباش النصارى الذي نسب إليه الكثير مما كتب عن تاريخ تلك المماليك الإسلامية في المنطقة ،والشيخ عبد الله الزيلعي هذا اشتهر بغزير علمه وعظيم تفقهه مع رجاحة عقله وصفاء تفكيره ، وهو حنفي المذهب على غرار أقرانه في المنطقة ، ومع وجود شافعية فيها ، وقد وصل الشيخ عبد الله خبره إلى بلاط سلطنة إفات بما كان يتمتع من علم واسع وعقلية فائقة ، وقد أسندت إليه قيادة البعثة الدبلوماسية التي أرسلت إلى مصر عام 738هـ الموافق 1337م ، والهدف منها أن يتدخل المصريون لإيقاف نزيف دماء المسلمين والحملات الحبشية ضدهم ، وأن يقوموا بدعم قضيتهم العادلة ،(4) وهذا دليل ‘على أن علماء المسلمين كانوا يلعبون أدواراً مختلفة ولم تكن مهمتهم تقتصر على نشر العلم وتربية الأجيال بل كان لهم أيضاَ دور في القضايا السياسية إذ إن العالم جزء من المجتمع ولا ينفك عنه بأي حال من الأحوال .
ومما سبق يظهر لنا أن العلماء رغم أنّ وظيفتهم الكبرى كانت نشر الإسلام وتدريس العلوم ولاسيما العلوم ا لدينية وما يتعلق بها ، إلا أنهم أيضاَ تقلدوا وظائف أخرى في مجتمعهم ، فأصبح منهم من يتولى مناصب سياسية وإدارية ، كوزراء وسفراء ومستشارين ، وكذا تولى بعضهم منصب القضاء واستشارة المحاكم الشرعية لفصل الخطاب والخصام ، كما صار بعضهم كتبة الدواوين الممالك والسلطنة وغير ذلك ، والحق أن العلماء والفقهاء استحقوا تولي كل هذه المناصب والوظائف ، وأصبحوا عند حسن ظن الأمة بهم.
1- قال با مخرمة، أبو عبد الله الطيب : ” كان أصل الشيخ الفقيه محمد بن مومن من بلد السودان من ناحية زيلع …” انظر تاريخ ثغر عدن، دار التنوير للطباعة ، بيروت – لبنان، الطبعة الثانية ،عام 1986م، ص 258.
2- با مخرمة : المصدر نفسه ص 258 – 260
3- با مخرمة : المصدر نفسه ص 258
4- الشيخ أحمد عبد الله ريراش : كشف السدول عن تاريخ الصومال وممالكهم السبعة ، طبع بمطابع الدولة للطباعة بمقدشو 1974م ص 78؛ بشير أحمد صلاد : التاريخ السياسي لسلطنة عدل الإسلامي في القرن الإفريقي ( 818هـ/ 1415م – 949هـ / 1543م ) وهي جزء من متطلبات الحصول على درجة الماجستير في الدراسات التاريخية ، من جامعة الدول العربية لمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم معهد التحوث والدراسات العربية ، بغداد ، قسم البحوث والدراسات التاريخية ، ذي الحجة 1407هـ ، أب 1987مص 67؛ زين العابدين السراج : الحياة الثقافية بالصومال في العصور الوسطى ضمن مجلة البحوث والدراسات العربية ، العدد 13، 14، 1987، ص 332.