في صباح يوم سريالي ذات مشاعر نورانية كطيف حورية يأتي من عالم الخلود، أوكفراشات السواقي حين تسير في منعطفات جداول الوادي ووسط الحقول الزراعية والازهار الفواحة، كان ينسرب إلي قلبي بهاء الحاضر، وذكريات أيقونية يسايرني ويسوقني إلي عمق الماضي الفخيم أو النوستالجيا كما يسمونها علماء النفس والإجتماع، وكانت الزهور التي تتمايل مع النسيم العليل يلبسني لباس الحبور الجارف والفرحة العارمة، آنست صفاء نادرا، وهدؤا عجيبا يسرى في داخلي ويورثني نشوة طافحة وخفة زائدة تقودني إلي المحيط الهندي وجمالة والسير علي رماله والخلجان الهادرة التي تتكلم عن صخب الطبيعة، مع شلة من أعز اصدقائي الذين إجتمعنا الزمن بعد سنوات من الفرقة والنوى.
الإتصال التليفوني لصديق الطفولة وزميل المراحل الدراسية المتقدمة من حياتي عبد الكريم عبدالله أحمد (باخا)، الذي كان في صغرنا آية في الخط والرسم والكتابة الجميلة، كما كان مهاجما من الطراز الأول، وصاحب لمسات فنية تعزف الكرة في أقدامه سيمفونية المتعة والإبداع في داخل المستطيل الأخضر، وينتهي الكرة في الشباك وبوضعيات مختلفة، إضافة إلي السكوت الكبير للرشاشات وصخب البارود، حيث زخات الرصاص المتقطعة وأصوات البنادق وطلاقات الكلاشنيكوف التي أصبحت عادية في مسمعي منذ أن وطأت قدمي في جنوب الصومال هدأت وبنسبة كبيرة في هذا الصباح، هذه العوامل وأخرى غيرها كانت كفيلة أن تقنعني جدوى السياحة للمرافق الطبيعية للمدينة، وأذكت في نفسي الحب العميق الذي أكنه للمحيط.
كما كانت إبتسامة الكون التي تحتفي بالضياء وشروق شمس ذهبي ليوم جديد، والأجواء البانورامية البديعة تدغدغ مشاعري، والخلجات الآسرة كانت ترسلني إلي الساحل الخلاب الذي يعانق الجبال المكسوة بالأعشاب والطبيعة العذاراء للسواحل الصومالية منبع الجمال وموئل العظمة الإلهية.
وإلي المحيط الهندي الملئ بالأسرار والعجائب الذي أحبه ويحبني، وأتذكره في عز الغربة ويشتاقني، وأترنم بإسمه عندما كنت ضيفا للمنافي وحفيفها، وحقيقة لا يوجد في كسمايو بقعة أجمل وأنقي من هذا الساحل الطبيعي الذي لم تصل إليه العناية البشرية لتحولة من منطقة بدائية وساحل طبيعي سياجه الرمال والجبال، إلي منتجع سياحي ذات مرافق متعدده يؤمه السياح والشعب بكل أطيافة وجميع شرائحه.
في تلك الساعة المترعة بسحر الهدوء وعظمة الإنتماء، تحركت عن بيتنا الذي يقع علي تخوم القصر الرئاسي الذي لايبعد عننا سوى أمتار محدودة، والجهة الشرقية من المبني القديم التابع لشركة التامين الوطني في الزمن الجميل، والمبنى يقع في الجزأ الشمالي للمدينة المعروف بأنها كانت قبل سنوات قليلة ضاحية نائية لا يسكنها إلا القليل، وعند المغيب لا صوت يعلو صوت الذئب الذي يعوي ونباح الكلاب في الليالي البهيمة.
ولا يوجد منطقة سكنت سحيق قلبي وأبهرتني مثل شاطئ ليدوفي كسمايو الذي يعتبر الشقيق الأصغر لساحل الليدو الوديع علي أحضان عاصمتنا الأنيقة مقديشو، وفي نظري من الممكن أن يكون هذا الشاطئ بتنوعه الطبيعي من الجبال التي ينمو الأعشاب فوق هامتها، والأزرقان السماء والمياه الذان يتداخلان بطريقة مدهشة، والتلال الرملية والأشجار المحيطة والسواحل النظيفة، وقربه إلي عمق المدينة والأحياء العتيقة منها من أجمل المناطق السياحية في الصومال، ولا تسحر كسمايو زائريها لكثرة مبانيها ولا بيوتها العتيقة ولا جمال أزقاتها، بل تسحر الزوار والعشاق بطبيعتها الغنية ومواردها المتعددة وشواطئها النظيفة وسكانها الطيبين.
وهذا الساحل كان ملعب طفولتي وميدان حداثتي، والتنفس الوحيد لنا أيام العطلة المدرسية حين كانت أفلام الإثارة والبوليسية الأمريكية وأفلام الحب والهوى الهندية والساحرة المستديرة يشكلون هوسنا ومتعتنا وشغفنا الطفولي وأقصي ما نريد أن نشبع عنه، وقصارى القول يربطني إلي زرقة المحيط ورماله الحريري وصفاء المياه ورومانسية الأجواء والإستمتاع بهدير الأمواج والتأمل في قدرة الخالق وبديع صنع المولى، خيط رفيع من الحب السرمدي والعشق الخفي الذي يجعلني أتوق إلي المحيط وبهائه وإلي الزوارق السريعة فوق مياهه والسباحة الحرة علي وقع الأمواج التي تتقاذفنا وإلي قواقعه وأسماكه الكثيرة في عمقها.
من طبيعتي الأزلية أني أعشق الطبيعة وأهوى الترحال إلي الأماكن الخلابة والأجواء الرائعة التي تمنح النفس بهجة عامرة أو بسمة عابرة أو ضحكة مجلجلة تشعل مسارج الحبور، ومن هذا المنطلق ذهبت إلي المحيط برفقة اصدقائي الكرام وأترابي العظام، وعندما بدت لنا البحر ونحن فوق الجبال الجالسة في حدقات المحيط تصاعدت روائح البحر الزكية، وتضوع أريجها المميز، وراق لنا الضباب اللطيف الذي كان يغشى علي وجه المحيط الهادر.
وعلي وقع صدى تهاليل الذكريات القديمة تجولنا فوق رمالها، وصعدنا الجبال المحيطة علي أرجائها، وشاهدنا عن كثب عظمة الخالق بواسطة آية عظيمة من آياته الكونية، وبعد التنقل والقفز برشاقة من صخر صماء نحته المياه إلي جلمود آخر يجثو علي ركبتيه تبجيلا للمولي، ومن الكثبان الساحلية المترامية، إلي نعومة الرمال المفروشة علي جبين الساحل بهندسة عجيبة جلسنا علي ضفاف الشاطئ والدهشة تعقد لساني وسحر الطبيعة تبهر عقولنا.
كان مشهد المياه التي تثور لحظة إرتطام الأمواج الهائجة علي جدار الصخور العملاقة ممتعا بكل المقاييس، وكان يصلنا الرذاذ ونحن نتجاذب أطراف الحديث الشجية الذي يبدأ عادة من الرحلة الشيقة والطبيعة العذراء والمحيط الهادر، ويمر بذكريات ساطعة لم أنساها ولم يستطع الزمن أن يطوى أحداثه بين دفتيه، مرورا بالساسية وردهاتها وحالة الوطن، وأخيرا المراة أو قل إن شئت السمراء الصومالية التي لا أعرف كيف كانت الحياة بدونهن وبدون تغنجهن العجيب وعنادهن القاتل، وكالعادة كانت الجلسة تنتهي ونحن نرسل زفرات الندم إلي عنان السماء، ونتسائل كيف يمكن أن نعيد للوطن ضحكته وللشعب إعتباره وللتاريخ رونقها وللجغرافيا رقعته وقدسيته المفقودة؟، وكيف يستطيع الشعب أن يستفيد من هذه المنطقة التي نجلس فوقها والتي يعتبر منطقة سياحية من الدرجة الأولي.
الوطن يبكي من أجل أمجاد لم تجد من يعتنيها، وتراثا شعبية ووطنية فقدت هيبتها في ضمن هدير الرصاص ومنطق القوة والإستيلاء المشين لكل شئ، حتي التاريخ والجغرافيا لم يسلما من هذا الجنون الغريب والتصرفات العنجهية لطمس هوية الشعب وتاريخ الوطن، وأصبحت البقع السياحية والقطع الأثرية والتاريخية في الصومال إما مفقودة أو مسروقة اومهملة، ومن هذا المرافق المهملة هذا الشاطئ الجدير بالعناية الفائقة والتقدير الجيد، لأنه جدير أن يؤمه المحبون وأصحاب القلوب المرهفة والمشاعر الرومانسية الحالمة ومن ينشد الراحة والدفء علي حضن المحيط.
علي وقع الجمال ووحي الطبيعة تحدثنا عن أشياء متعددة ومختلفة، عن الحكايات الغابرة والأساطير الصومالية، وعن الشعر والأدب والحب والحياة، وعن الصراعات التي لا تنتهي في الصومال، وكانت الطرائف تدور فيما بيننا كفناجين القهوة التي يرشفها الأصحاب علي مهل، وأعادنا قطار الزمن السريع إلي عقارب الساعة و قبل عقد ونصف من الزمن عندما كنا أطفالا يتعلمون السباحة في مياه هذا الشاطئ الوفي، وفي خضم الحكايات الشجية للماضي التليد لم يغب الحاضر عن بالنا، ولم ننسي الواقع الجديد الذي تشهده المدينة، بل كنا نتكلم عن السياسة وإتجاهاتها والإدارة الوليدة التي تعمل جاهدة لإصلاح ما أفسده الماضي بكل تراجيدياته وتجلياته وآهاته المتراكمة عبر عقدين ونيف من الزمان كان العنف والعنف المضاد شعار الوطن الذي لا يغيب.
لم نستطع أن نسبح ونستجمم داخل مياه المحيط الدافئ من أجل الصيام الذي كنا نراعيه أولا، ومن أجل البحر الهائج الذي خفناه علي أنفسنا ثانية، وللعلم ففي الصيف تشهد المواني الصومالية الواقعة علي جنوب البلد ركودا كبيرا بسبب التقلبات المناخية والطقس السيّئ والرياح الهائجة وتكون المياه مرتفعة جدا، وينجم عن هذا التغيرات صعوبة الملاحة البحرية طيلة أيام الصيف أو ما يسمي كوسي في اللغة المحلية، ولكن عوضنا السباحة التي إفتقدناها المشي فوق رمالها الحريري وتربتها الناعمة، والتسابق فوق هامات الروابي المعشبة، والتسلق إلي الهضاب والصعود إلي الجبال الوعرة قرب المحيط.
مر الوقت سريعا كعادته، والوقت الذي يداهم المحبين دائما هو الخصم العنيد للجمال، والاوقات النضرة قصيرة جدا، وحينما يسبح الأصدقاء في جو من المرح والحبور ولذة الوصال مع مكان شهد حياتهم الأولي وهم في نعومة أظافرهم وفي مقتبل أعمارهم يجري الزمن بسرعة الضوء لا بسرعة السلحفاة.
قضينا علي أهداب المحيط وقتا لا أنساه وسطرنا ساعات ذالك اليوم الملئ بالجمال والحيوة والذكريات علي شغاف قلوبنا، وخلّدنا لحظاته الجميلة وومضاته البهية صورا تذكارية ولقطات جماعية ستأبى أن يعروها دجى النسيان، وقبيل الأصيل غادرنا المحيط الذي مكثنا علي شاطئه ساعات مترعة بالماضي وجماله، والحاضر المزدان بالآمال التي ترفرف أجنحتها فوق سماء الوطن.