«الشيء الصغير»، كما يُعرّف عنه الراوي لاحقاً، يحاول جاهداً الوصول إلى عنوان المنزل الذي أمره قائده في التنظيم الجهادي بالاستيلاء عليه. بعدما فشل في إثبات نفسه كمفجر انتحاري محتمل، بات لزاماً على الصبي العاثر الحظ القيام بمهمات أخرى ومنها نقل الأسلحة وتخزينها في منزل آمن لتحويله إلى ثكنة إرهابية.
لكنّ المهمة «السهلة» التي أوكلت إليه سرعان ما تتحوّل إلى مهمة مستحيلة. وفي سياق بحثه عن المنزل، يستمر الفتى في سؤال المارّة علّهم يرشدونه. امرأة عجوز تتقصّد تضليله لأنّها شعرت بأنه يضمر شراً، وتاجر خبيث يرشده إلى منزل منافس له علّه يتخلّص منه. بعد محاولات كثيرة، يصل الفتى إلى المبنى الخطأ حيث يقابل كهلاً يظنه حفيده فيسمح له بالدخول، وما هي إلا لحظات حتى تقتلهما جماعة مسلحة أخرى… هنا الموت سريع ورخيص، إنها لاعقلانية الحرب الأهلية.
لا يستطيع روائيون كثر وصف حال بلدهم المتغيرة كما يفعل نور الدين فرح. قبل عشرين عاماً، أصدر ثلاثيته «دماء في الشمس»، التي نسج في طيّاتها ذكريات طفولته وشبابه في ظلّ ديكتاتورية الصومال. وبعدما غرقت البلاد في دوامة الحرب الأهلية والإرهاب في العام 1991، عاد فرح من منفاه ليقدم أعمالاً حية تعكس واقع الحال. هكذا غابت أشجار المانغو والأحلام الطفولية عن رواياته الجديدة. فاستعاض عن استعادة الذكريات بتقديم روايات حقيقية جداً عن بلد ممزق وانتحاري بكل ما فيه. قصص واقعية ليس من السهل مصادفتها في أي وسيلة إعلامية تغطي أحداث الصومال.
يكتب نور الدين فرح بالإنكليزية – اللغة الخامسة التي يتقنها – عن بلد أضاع بوصلته، وبات مصيره بيد مجموعات مسلحة يافعة وخرقاء. في روايته يظهر كيف أصبح معظم الصوماليين أسرى محيطهم الضيّق بينما معظم المقاتلين من الشبان والأطفال لا يملكون أدنى فكرة إلى أين هم ذاهبون، تماماً كما هي حال ذلك المراهق الصغير. القضية أكبر منهم بكثير، لذلك، يتوقف فرح ليشير إلى تقرير صادر عن الأمم المتحدة يؤكد أن 12 دولة أجنبية منخرطة في الصراع الدائر في هذه البلاد التي لا يتعدى سكانها العشرة ملايين.
يعود الكاتب بأحداث روايته إلى أواخر العام 2006، حين كانت الحكومة الانتقالية تحت الحصار بينما ينشط اتحاد المحاكم الإسلامية ويطبق أحكامه المتطرفة عبر جناحه العسكري، ضد حركة الشباب. ووفق الكاتب، لا يختلف هؤلاء عمن سبقهم من عناصر ميليشيات، يتخذون من الدين ستاراً لجرائمهم، «يتدثرون بعباءات بيضاء لامعة يخفون تحتها مسدسات الماغنوم».
إلى هذه الفوضى يأتي بطل الرواية مالك، صحافي مستقل من نيويورك يتحدر من عائلة صومالية – أميركية، يحاول جاهداً نقل ما يجري في بلاده بموضوعية. وكما في سائر روايات نور الدين فرح، ثمّة وجود بارز للمنفيين العائدين إلى الصومال. يأتي هؤلاء إلى بلادهم ليفاجأوا بانعدام القانون والوحشية السائدة، ولعلّ أكثر ما يصدمهم هو تحليق الطائرات الأميركية بلا طيار، كل ليلة، لجمع المعلومات الاستخباراتية وتقديمها للجارة والعدوة اللدود، إثيوبيا.
خلال الرواية، يقوم مالك بمقابلات كثيرة مع أمراء حرب «يرسلون أبناء رجال آخرين إلى موتهم المحتم ليتحدثوا عن استشهادهم المجيد»، مع قراصنة صوماليين لا يجيدون حتى السباحة، مع مواطنين يتآكلهم القلق، وجميعهم في حالة تأهب بانتظار انفجار القنبلة القادمة. مشاهد مأسوية تعبر أمام القارئ. أطفال أدمنوا القات والسلاح معاً، أمراض يصعب تشخيصها لغرابتها، بطون منتفخة وعيون ضجرة تلاحق أسراب الذباب. أما قصة المراهق التائه في البداية فهي واحدة من بين عشرات القصص التي يسمعها مالك خلال جولاته الميدانية.
لا يستطيع نور الدين فرح أن يخفي غضبه من بعض الممارسات الغبية للمجاهدين المتطرفين. يتحدث عن مصادرة كمبيوتر مالك لبضع ســاعات عند أحد الحواجز، قبل أن يســتعيده لاحقاً بعدما تم تحميله بفيروس معقد، وإزالة المواد المحرمة عنه، ومن بينها «صورة لفتاة عارية احتلت الشاشة»، ما هي إلا صورة ابنته التي لا يتعدى عمرها العام وهي في بركة السباحة!.
في حادثة أخرى، يخبر أحد المجاهدين مالك أن أرتداء حزام الأمان خلال قيادة السيارة فيه تحد لإرادة البارئ!
في معظم الأحيان، يأخذنا الراوي في جولة عبر البيوت والعقول في الصومال حيث لا يمكن الولوج بسهولة، لكنه يؤكد أنه لا يتحدث فقط عن الصومال، بل ثمّة مشاهد مماثلة تتكرر في أجزاء مختلفة من العالم النامي.
وبرأيه، فإن معظم الصراعات التي نشهدها ما هي إلا مجرد خلافات تافهة وولاءات عقيمة ومصالح شخصية بعيدة كلّ البعد عن مصالح الشعب. على سبيل المثل، لا ينخرط الفتيان في صفوف القراصنة أو المجاهدين بهدف محاربة الغرب وسرقته أو إقامة دولة الشريعة الإسلامية، بل يفعلون ذلك ببساطة لأنهم جوعى. تماماً مثل المقاتلين في أفغانستان، فهم قد ينضمون إلى الجيش اليوم لأنه يمنحهم مرتباً جيداً، لكنهم قد ينخرطون في صفوف أعدائه في اليوم التالي إن قدموا لهم مرتبات أعلى.
اعتاد فرح أن يتناول في رواياته الأخيرة أبرز الظواهر والأحداث التي تعصف بالصومال، لذلك فإنّ ظاهرة القرصنة تحتل حيزاً من رواية «عظمتان متصالبتان»، إذ يقدم الكاتب وجهة نظر محلية مختلفة عما نسمعه في وسائل الإعلام. بالنسبة إلى معظم الصوماليين، فإن «لصوص البحر» ليسوا مفترسين بمقدار ما هم ضحايا. يؤكد هؤلاء أن أكثر من 700 سفينة أجنبية من أوروبا، روسيا، وكوريا، واليابان، تخرق عباب المياه الصومالية إما لتنهب موارد البلاد وتصطاد الأسماك بكميات هائلة عبر تقنيات متطورة للغاية، أو لترمي نفاياتها النووية والكيماوية فيها، ما يحرم ما يقارب سبعة آلاف صياد صومالي من مصدر رزقهم، جراء قيام السفن العملاقة بنهب الثروة السمكية، وعدم قدرة الصيادين الصوماليين على تأمين قوت يومهم بقواربهم البدائية، وهذا ما يبرر انخراط كثر منهم في صفوف القراصنة. ويشكو الكثير من القراصنة من أنّ 90 في المئة من أموال الفدية يذهب إلى الوسطاء، وهذا ما يدفع بالقراصنة إلى سرقة الهواتف المحمولة، والساعات، والمجوهرات، والمواد الغذائية من رهائنهم.
قد لا يرى الجميع القرصنة من هذه الزاوية، لكنّ الحقيقة أنّ نور الدين فرح أسبغ وجهاً إنسانياً على التقارير الجافة التي قد نقرأها في أي صحيفة.