أكذوبة المواطنة 

الوطن هو المكان الذي يستقر فيه الإنسان سواء ولد فيه أو ترعرع عليه أو هاجر إليه وسكن فيه حسب الأنظمة المعمولة في تلك البلاد ، وتعطي الدول الديمقراطية كل من توفرت في حقه هذه الشروط حق المواطنة الكاملة من غير نقصان أو بخس ، له الحقوق وعليه الواجبات ، ولا يجوز المساس به أو الاعتداء عليه أو الحجر على تصرفاته أو المنع من  إبداء رأيه في جميع نواحي الحياة إلا بسند شرعي وقانوني يستمد قوته من التوافق المجتمعي الذي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم .

وأما الأنظمة الشمولية والدكتاتورية يُعتبر المواطن مجرد تابع للحاكم ، فليس له رأي في طريقة الحكم وتوزيع الثروة وتولى المناصب والولايات ، فعليه أداء واجبات الحاكم كاملة غير منقوصة ، ولا يحق له مطالبة حقوقه، بل يجب عليه قبول ما يتفضل عليه سيده . 

ومن أجل ذلك يصبح الوطن في البلدان التي تعلي القيم وسيادة القانون موطنا للجميع لا يتفاضل الناس فيه إلا بالبذل والعطاء ، وأما البلدان التي تقع تحت تصرف الدكتاتوريات يصبح شعبها خدما للحاكم وحاشيته .

وتواجه تحقيق المواطنة الصحيحة تحديا كبيرا في معظم البلدان العالم الثالث حيث يتقدم الفساد والمحسوبية في مجالات الحياة المتنوعة ، ولا اعتبار للدساتير والأنظمة الموجودة في قوالب وخزائن المكاتب  .

الصومال من الدول العربية والإفريقية التي نالت حريتها من الاستعمار الغربي في أوائل الستينات القرن الماضي ، وكان أول دستور لها بعد الاستقلال ينص على أن الشعب الصومالي أمة واحدة تشترك في العرق واللون والدين واللغة والموقع الجغرافي ، وهم شركاء في الوطن ولا فرق بينهم ، ويتساوون في الحقوق والواجبات، وكل فرد منهم له كامل الحرية في اختبار من يراه مناسبا في قيادة البلد ، كما له الحق في الترشح أو التولي في أي منصب من مناصب الدولة العليا والصغرى ما لم يمنعه ذاك حكم صحيح وصريح من المحاكم الرسمية .

ولكن يبقى هذا الكلام مجرد سفسطة نظرية لا حقيقة ولا وجود له في أرض الواقع ، بل العكس هو الصحيح ، وأن بنود الدستور معطلة عن العمل إلا ما يخدم لأصحاب السلطة والمحيطين بهم .

المواطنة في الصومال مجرد وهم وسراب يرفعها الساسة وتجار الشعارات الكاذبة في المحافل العامة من أجل دقدقة مشاعر الدهماء والبسطاء المغلوب على أمرهم ، فالوطن ملك لعدد قليل من الناس ، وأما الغالبية من الشعب فتكفيهم المواطنة الكاذبة والمزيفة .

فأصبحت المواطنة بعد الاستقلال أسوء مما كانت عليه قبله لأن الفقراء الذي دفعوا حياتهم من أجل حياة أفضل لأولادهم وجدوا أنفسهم بأنهم استبدلوا الحاكم الأبيض بحاكم من بني جلدتهم لكن أسوء من كان قبله ، لأن الأول كان عادلا في ظلمه حيث وزعه على الجميع ، بينما اقتصر ظلم الثاني على فئام دون أخري ، وازدادت مأساة المواطنة الصومالية بعد استيلاء العسكر على مقاليد الحكم  في عام ١٩٦٩م ، واصدارهم بقرارات ومراسيم تطرب لها النفوس تعلي ظاهريا  مبدأ المواطنة وحقوق الشعب ، وقد تنفس الصعداء لها وخرجت المظاهرات تأييدا وترحيبا لهذ الخطوة ، لأن الناس ملو من تصرفات الحكومات المدنية التي تعاقبت على الحكم بعد الاستقلال ، وظنوا أن زمن الاحتقار وسوء استغلال السلطة قد ولى بدون رجعة وأن فجرا جديدا أطلّ رأسه على التراب الصومالي ، وقد استخدم النظام الجديد في ترويج شعاراته الحماسية بتأسيس فرق موسيقية كثيرة تجوب في طول البلاد وعرضه تغني بأهازيج وطنية وأغاني حماسية تدعو الناس إلى التكاتف والتمحور حول النظام الجديد الذي قام من أجل حماية حقوق الضعفاء ونصرة المظلومين واتاحة الفرصة أمام الجميع ومحاربة الطبقية والفساد والمحسوبية ، واجتثاث بكل أنواع التميز الذي صارت عليه كل الحكومات السابقة ، ولكن سرعان ما تبين للناس بأن هذه القرارات لا تساوي قيمة المداد الذي كتبت به وأن لعبة جديدة من الاستحواذ والتفرد في مقدرات البلد بدأت تظهر من جديد ولكن بصورة ثورية تستعين بالنار والحديد وتكميم الأفواه واصدار الأحكام المسبقة لكل من تسول له نفسه في معارضة هذا النهج الجديد.

وبعد سقوط الحكومة المركزية قبل أكثر من ربع قرن ومحاولة تأسيس وإعادة الدولة الصومالية المبنية على العدل والمساواة من جديد إلا أنها باءت بالفشل ، وبدل ذلك تأسست دويلات طائفية ذات صبغة طبقية تؤسس بنوع أخر من المواطنة المزيفة التي تحصر الحكم والثروة على عدد محدود من الناس .

فمناصب العليا في الدولة محجوزة لأسر معينة ، والوزراء ووزاراتهم مزارع خاصة ، فالسفراء وكبار المسؤولين من مدنيين وعسكريين لا يجوز التطلع إليها إلا من يحمل جينات معينة ،  وقس على ذلك ما بقي من إدارات وهيئات الدولة.

أكثر من ثلثي الشعب الصومالي لا يجوز لهم التفكير في الوصول إلى مناصب قيادة عليا في الدولة لأن النظام القبلي المؤسس على الحياة السياسية الصومالية منذ الاستقلال إلى اليوم يجعلهم غير مؤهلين لذلك الموقع ولو كانوا يحملون شهادات عليا وخبرات معتبرة في مجال عملهم ، فلو وصل أحدهم إلى هذا المنصب في حين غفلة من المسؤولين فيبقى مجرد دمية لا يستطيع ممارسة مهامه الوظيفي إلا بضوء أخضر ممن هو فوقه .

وأما النظام الانتخابي غير المباشر المعمول به في السنوات الأخيرة والذي يسمح لكل إقليم ممارسته بحسب لوائحه الداخلية فلا يسمح لبعض الأقاليم أن يختاروا من يريدون ويرفضوا من لا يريدون بل الحكومة المركزية تتدخل في تنظيمه وتسييره وتستخدم المال السياسي أو بقوة السلاح والتهديد إذا لزم الأمر وتفرض عليهم  أو  تختار لهم من يخدم لها وينفذ المصالح العليا لمن يعتبرون أنفسهم بأنهم أوصياء على الوطن .

المواطن الفقير في الصومال لا يجد تعليما ، ولا علاجا ، ولا عدلا ، ولا طرقا معبدة ، ولا حياة كريمة ولا احتراما وتقديرا ، بل لا يجد وظيفة يستر بها حاله وحال أسرته ولو كانت بدخل متدن ، فكثير من الطلبة الذين تكبدوا الصعاب من أجل انهاء دراساتهم الجامعية مؤملين بمستقبل أفضل وجدوا أنفسهم في وصع لا يحسد عليهم وأن أبواب التوظيف أغلقت أمامهم ولا يسمح لهم الدخول إليها إلا إذا كانوا يحملون بطاقة المرور إلى المكاتب العليا للحكومة ، وهي بطاقة لا تكتشفها الأنظمة المسحية للبوابات الإلكترونية ولا تعثر عليها عند التفتيش اليدوي وهي  الانتساب القبلي ، وأما من فاتحه ذلك فيحب عليه القبول العيش تحت رحمة النظام العشائري .

الحكومات المركزية التي توالت على إدارة مقاليد البلاد في السنوات الأخيرة فشلت فشلا ذريعا في لملمة ومقاربة الوضع الصومالي وتوجيهه إلى الوجهة الصحيحة والعمل على تأسيس منتدى حواري وطني شامل يشارك فيه جميع أبناء الشعب من غير استثناء لكي يتوصل إلى مصالحة عامة فيما بينه ويعيد المواطنة الصحيحة إلى مكانها  ، وبدل ذلك اعتمدت على لغة الاقصاء والتهميش وسوء استغلال السلطة كما لو كانت تحكم البلاد من ألفه إلى يائه ، مما جعل الناس يسيئون الظن في تصرفاتها ويعتقدون بأنها تريد أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء وتنتج سلطة دكتاتورية كما كان الأمر في العهد السابق .

وأخيرا المواطنة في الصومال مجرد أمنية لا وجود لها ، وتأسيسها من جديد تحتاج إلى عمل شاق ومخلص وإرادة سياسية صادقة وإلى ذلك الحين فعلى الصومال وأهله الطيبين الأمن والأمان والسلام .

عبدالباسط شيخ إبراهيم

الخميس ١٠/٠١/٢٠١٩م .

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى