مفهوم “الأمة” في تراث الدعاة في الصومال

إن مفهوم الأمة في القرآن الكريم  يأتي في معان مختلفة،  يذهب المفسرون عند تفسيرهم لمدلول الأمة إتجاهات ليست متحدة بكل الأبعاد،  ولكنها تأتلف في نقطة مقاصدية، ومن أجل هذا وذاك يذهب أكثر المفسرين إلى تأويلات متضافرة وذلك حسب ما يظهر لهم من السياق من معنى (وفي الحقيقة لم يدرس المفسرون بصورة منهجية نظامية هذه الجوانب من معنى الأمة ولم يتعمقوا في درس مفهوم الأمة مجردا عن مفهوم الطريقة أو الملة) 1

ثم إن دراسة القرآن بمفاهيمه ومصطلحاته لم تجد ضوابط وتقنيات ومنهجيات يمكن الإطلاق عليها والتسمية بها (بأصول التفسير) اللهم إلا ما ظهر في الآونة الأخيرة جهود الجامعات في شعبها العليا من الدراسات الإسلامية تقتفي مناهج المفسرين وقواعدهم من أجل صياغة أصول للتفسير.. 

(لحاظ مدلول الأمة في القرآن الكريم)          

_ الأمة بمعنى الوقت والحين، وذلك عند قوله تعالى (وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله،،،) من سورة يوسف، الآية 45

_ الأمة بمعنى الإمام الذي يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، وذلك في قوله تعالى ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين)  من سورة النحل، الآية 120

_ الأمة بمعنى الجماعة المتفقة على دين واحد،  في قوله تعالى (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) من سورة المؤمنون، الآية   52

ومنشأ هذه الصعوبة التي تواجه من يروم تحديد مدلول الأمة عدم وجود نص قرآني صريح يشرح قضية اللفظ ويتناولها ببعد دلالي واحد، لا يحتمل أوجه،  وهي في حد ذاتها تدل على القصد التام في فتح آفاق دلالة اللفظ لتؤسس رابطة عضوية حيوية تنبني على أساس روح الرسالة الخالدة، وبناء مجتمع قائم على أساس اعتقادي مبدئي، ويحبذ مهمة وجود مصلح قيادي يهدي للناس الخير والصراط المستقيم،  ويشير اللفظ في بعض سياقاته أمة على ملة معينة،  ولو أردنا شمل دلالته بوسعنا أن نقول إن الأمة في كل السياقات تنادي بوجود جماعة تهتدي بالهدي السماوي وتسعى إلى استئناف حياة جديدة ونظام حياة جديد (وهذه الجماعة الجديدة لا تكون جديدة إلا بمقدار ما تتجاوز طبيعة العلاقات القبلية السائدة، أليس مثيرا أن تكون كلمة قبيلة غير واردة في القرآن سوى مرة واحدة وبصيغة الجمع في آيات القرآن؟! ولا ريب في هذا أن هذا الغياب دليل _من جملة أدلة _ على إرادة حامل الرسالة الجديدة نقض نظام العلاقات الاجتماعية المبنية على وحدة النسب ؛ أي نقض تصور الأمة المشترك مع تصور القبيلة) 2

ويعتمد تأسيس أمة وتكوينها على رسالة الوحي (الكتاب ثم الحكمة)  ويتسم القرآن بإطلاقات عامة يوصف بها البشر دونما التعرض على ألقاب محصورة بمكانها وزمانها،  وإنما ينتقي من الصفات ما يتميز بطابع العمومة الأبدية حفاظا على روح التجديد وبعث الحيوية في نفوس الأمة.

موضوع الورقة يركز على قضيتين رئيسيتين، 

القضية الأولى :دلالة لفظة الأمة في السياق القرآني وقد تم شرحها.

القضية الثانية :منطق الأمة في تراث الدعاة في الصومال،  هنا يأتي السؤال وذلك بموجب ما تم تفصيله من معنى الأمة ودلالتها الوارد في خطاب الله تعالى، فهل يتوافق منطق الأمة عند الدعاة مع السياقات الواردة في القرآن لمعاني الأمة؟ وهل ثمة ممارسات للدعاة في الحقل الدعوي والتربوي ينطبق تماما مع استراتيجية توظيف معنى الأمة في سياقها القرآني؟ 

نستعرض لمحات من أدبيات الدعاة في الصومال بمختلف مؤسساتهم التقليدية والحديثة، لعل جواب السؤال تكمن عند بحثنا في أدبيات الدعاة وسكناتهم وحركاتهم وكيفية توجيههم للأمة وشكل خطابهم وهيئاتهم وما يهتمون من قضايا وأجندات.

نحاول تقديم ثلاث محاور تمهيدا لإدراك دلالة الأمة عند الدعاة.

المحور الأول :العلاقة الجدلية بين الدعاة في الصومال والثقافة الاجتماعية في ميزان مفهوم الأمة القرآني.

بما أن الثقافة تتركب من عموميات وخصوصيات وأن معاييرها هي الطابع الأكيد في صناعة إندماج الأمة وانسجامها مع بعضها البعض وتناغم أحاسيسها ومشاعرها، هناك جدل قائم بين دعاة الصومال والثقافة الاجتماعية بما هي ثقافة تحمل تقابلا نفسيا وترجمة رسمية للهوية الصومالية المسلمة، فكان أن طرأ في خاطرهم _أقصدالدعاة _ أن المجتمع الصومالي بحاجةإلى مصنع جديد يستهدف تدمير الثقافة وتقزيمها، وكأن المجمتع قبلهم كان يتأسلم ويتظاهر بالإسلام ولم يكن مسلما.

يتوافد الدعاة من دول  الخليج العربي إلى مرافئ الصومال ومدنها يلبسون زي الخليج من مشلح أو معطف وعمامة قوراء حمراء وقمصان خليجي،  ما يظهر انسلاخهم من ثقافة اللباس السائد في بلادهم،  وساد سلوكهم محاكاة الخليج قلبا وقالبا من ملبس وشكل وتعامل وطريقة حياة حتى تكاد تطلق إزاء كل هذا لباس الشهرة ورياء الأعمال!  وأعقب ذلك نكران الأمة صنيعهم وهاج في نفس المجتمع توجس ما يصنع الداعية من سعيه الحثيث في طمس معالم الثقافة الصومالية المرتبطة أصالة بالإسلام ، وتارة تلاحظ الأمة معاول تهدم كيانها الوجودي من تقليل شأن اللغة الصومالية وقيمتهاالشريفة،  حتى ترى من بينهم من يندم على انتمائه اللغة الصومالية ؛ وذلك ظاهر في كل ميادين الموسسات التربوية من مدرسة ومعلمة وندوة ومعهد،  وسبب التنافر بين الدعاة والمجتمع إنما هو راجع إلى زلزلة أركان الثقافة الصومالية الذي هو الرابط الوحيد بين أبناء سكانها، وهو المحضن الدافئ الكفيل بتربية الأبناء على التعاليم الإسلامية،  ولهذا فإن السخرية من اللغة والثقافة والملامح تفضي إلى ذوبان المقصد الدعوي في صراعات تافهة لا تعرف نهايتها ؛وحتى المنهج الدراسي يحشي في ذاكرة الطلاب أيام العرب وسيرتهم العسكرية حتى قيام الدولة الحديثة، مما يجعل الشخصية الصومالية تتمحور في الخليج العربي منبهرة في ثقافتهم التي تكون هي نفسها على مسافة واحدة توازي مسافة الثقافة الصومالية المنبوذة للإسلام.

المحور الثاني  :نداءات سياسية (نظرة من خلال تشكيل التراث لمعطى الأمة) 

يراقب المجتمع الصومالي ما يصدره حناجر الدعاة من تصريحات سياسية وتضامنات يراد بها توطيد أواصر الأمة المحمدية، ولطالما هتف المجتمع ولا يزال يهتف المجتمع ما يزعج بال الداعية ويثير حفيظته من إلصاقه بتهمة التملق بالمحيط العربي وأنه عرض صورة مجتمعه على مائدة الخليج العربي وأنه يستأثر بنفسه دعم دول البترو دولارات على حساب الشعب الصومالي،  ولا أعرف بالتحديد متى يتوقف اشمئزاز المجتمع تجاه سلوك الدعاة _وخاصة الطبقة المثقفة بمختلف شرائح تخصصاتهم ودوائر عملهم،  ربما يكون معرفة نهايتها  بعد تحديد العوامل وسبر الأسباب من النتائج، وما دام أن النماذج عنده لا زالت متعلقة في ذهنه يضاعف اشمئزازه وتبدوا منه لغة الكراهية، طالما استضافت عواصم بلاده مظاهرات تبدي أسفها وتعلن تضامنها مع الخارج وندوات علقت عناوينها البراقة مع لافتات رباعية على جدران المساجد وجنب المنابر.

هذه الممارسات الدعوية تشهد أن قاموس تراث الداعية يستقى منه مفاهيم عنصرية لمعنى الأمة مثل أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، وعليه، يجب على غير العرب أن يصير رديفا يتبع دابر قبائل العرب،  إنه معنى يناقض تماما التوجيه الفلسفي والروحي لدلالة الأمة الوارد في الخطاب الإلهي…

وأما الخطاب التقليدي للمدرسة الكلاسيكية قد وظف مدلول الأمة في قالب مادي ؛وما إن تيقن أن رصيده التوجيهي يتضايق وقاعدته الشعبية تتضاءل وتأكد من استفحال دور الصحوة بخطابها التجديدي وروحها الحيوي، وأن الشعب كان بحاجة ماسة إلى الانفتاح يسمح له نافذة يتواصل مع من يماثله في الاعتقاد والتدين، وحاجة الأمة إلى الانفتاح قانون كلي يبرهنه تجارب البشر لأن (الأمة المتمسكة بأخلاق الإحسان تورث المواطنة صفة الانفتاح حيث تورثها (الجماعة) المكتفية  بالعادات الأخلاقية صفة (الإنغلاق)  3.

وصارت جهود المدرسة التقليدية تنهال بضرباتها على الصحوة من خلال نشر الكراهية واللجوء إلى أسلوب التهييج وخلق المناورة بين الشعب ورواد المدرسة الحديثة بافتراءات أشبه ما تكون من ميراث أبي مرة (إبليس) فانحرفت المدرسة التقليدية عن الطريق المستقيم في تناولها لمدلول الأمة بالسياق القرآني وفسرت مكون الأمة بأنه قائم على روابط جهوية مادية وقبلية، وشاع قديما مثل صومالي يحلل الشخصية الداعية أوالشيخ في القطر وقاطيها، بأنه دائما ما يميل إلى عشيرته وينافح عن مصالحها (fiqi tolkii kama janno tago!)  وانتهى بهم الحال إلى انخرام معنى الأمة بين يديهم بالسياق القرآني، لأنه جعل القصد الأصلي المنوط بمفهوم الأمة التوحيدي تابعا في ذيل الثقافة التي تغلبها المادة وفصيل الدم العشائري، ومفهوم الأمة يعاني عند المدرستين بين (الاستنساخ) و(الانغلاق المادي)

المحور الثالث فتاوى وفقهيات لدى الدعاة وأثرها على خصوصيات الأمة.

الفروع الفقهية يجوز فيه الاختلاف في تشكيلته وتأصيله وبيانه، ريثما أن هنالك كثير من الأصول يتيح للفقيه أن يبني بها على مسائله الفقهية ولذلك رفض الإمام مالك رحمه الله أن يحمل الناس على مذهبه وإلزامهم بما يراه مالك جائزا أو صحيحا نافذا أو شرطا فاسدا،  عناية بخصوصيات الأمة وحريتها على صياغة استنباطاتها الفقهية المبنية على فهوم الصحابة رضوان الله عليهم،  وهذا ظاهر من قصد الامام مالك وكان رده لأبي جعفر كلاما مفاده،  أن الأمة انتشرت في بقاع الأرض شرقا وغربا ما يعني أن فهوم الصحابة اشتهرت وذاعت في الأصقاغ والبقاع، فلم يعد طلب الحمل على الناس بمذهب واحد أمرا يليق لواقع الدولة الإسلامية، لأن مفهوم الأمة في سياقها القرآني فاعل في الحقل التربوي والدعوي، إضافة إلى حرصهم الشديد أيضا على حماية جناب التوحيد ونبذ البدعة مما هو داخل في الجهاز المفاهيمي لكلمة الأمة،  وتأكيد الرابط المعنوي والروحي تاريخا ونسقا ذات دلالة إيمانية،  وتفترض دلالة الأمة العمل على توحيد الأمة بما هي جماعة روحية معنوية،وليس ثمة تعارض بين الخلاف الفرعي ووحدة الأمة على نسق إيماني دعوي،  بل فيه من التكامل والتناسق ما يدعوا إلى استمرارية الحياة بطابعها الأممي الأيديولوجي.، ومن المؤسف أن يرتطم الدعاة في وحل التحقيقات العقدية الفلسفية التي تبعد النجعة ويصعب فهمها على الجمهور، وكذا التوسع في تمييز الخلاف الفقهي، وقد حصل الأخذ بمذهب إسرار البسملة في الجهرية وإلغاء اعتبارية اختلاف المطالع في رؤية شهر رمضان، وترك القنوت في صلاة الفجر،،  وغيرها كثير.

وختاما

إن إحياء المصطلحات القرآنية ضرورة حتمية في قيادة الأمة إلى بر الأمان وذاك يضمنه البيان العربي ومفهوم السياق لئلا يكتفي الداعية برغباته عند وظيفة الدعوة وألا يبني على تموجات عواطفه.

أخذت دلالة الأمة عند المدرستين طرفي نقيض، ما بين إفراط وتفريط، من يدمر خصوصيات الأمة حتى يشك الناس في دينهم وتدينهم ، ومن يدمر قضية البشر الكونية ويقطع الحبل الذي يربط الأمة بربهم، فتدلى رابط الدم والقبيلة وأصبح دين الله لا يحيد عنه الناس.

#القرآن الكريم.                                                  

1:من شبكة إسلام أونلاين بعنوان، مفهوم الأمة في القرآن الكريم،بواسطة ناصيف نصار.

2:الرابط السابق.                                                      

3:روح الحداثة، للدكتور طه عبد الرحمن، ص: 228   

عبد القادر شيخ آدم

ماجستير قياس وتقويم تربوي , طالب ماجستير دراسات إسلامية
زر الذهاب إلى الأعلى