الصومال والذهب الأبيض 

يقال إنّ الإبل بدأت حياتها قبل ملايين السنوات في أمريكا الشمالية، وهناك اعتقاد شاسع بين أوساط الباحثين والمؤرخين أنها كانت بحجم الأرانب، ثم تطورت بعد انتقالها عبر الممرات الجليدية إلى بقية أجزاء العالم ، حيث تم استئناسها لأول مرة في الجزيرة العربية، إلا أن الملفت للنظر هو استقرارها واختيارها للأراضي الصومالية التي تعتبر أكبر حاضنة للإبل في العالم رغم وجود أقطار أخرى تشابهها في التضاريس و الظروف المناخية. فما السبب وراء ذلك؟
ارتباط تربية هذا الكائن الصبور، النشيط ذي المنافع المتعددة  بحياة المجتمع الصومالي يجعل منه مكوناً أساسيًّا في الثقافة الاجتماعية  فهو يمثل رمز الشرف والفخر لديهم. فالعادات والتقاليد الصومالية تعطي الإبل مكانة عظيمة، ويمكن القول أنها العامل الأساسي لكون الصومال تتربع في صدارة تعداد الإبل الممتلكة في العالم بثروة تبلغ حوالي سبعة ملايين رأس، حسب ما تؤكده المنظمات العالمية ذات العلاقة بالقطاع الحيواني.
ولدى التكلم عن علاقة العادات والتقاليد الصومالية بالإبل فلا بد من إعطاء فكرة موجزة عن حياة رعاة الإبل ، بدءاً من طرق الامتلاك ، والعادات التي تفرض على الصومالي البحث عن هذه الثروة والحرص على تنميتها.
ولادة الطفل الصومالي هي المحطة الأولى لامتلاك الإبل، حيث يخصص الأب ناقة مدرة لمولوده الجديد، ومن هنا يتوالى تقديم النوق كهدايا من الأعمام والأقارب. حتى إذا وصل إلى سنّ البلوغ يكون قد صار بحوزته عدد كبير من الإبل ، فيهتم برعايتها حيث يقطع المساحات الشاسعة تجميعا للمعلومات الكافية عن المياه والكلأ ليتمتع قطيعه بالمراعي الطبيعية والمياه العذبة، وفي نفس الوقت يراعي طبيعة المرعى ونوع الأشجار والأعشاب المتوفرة في المكان، ويتأكد من عدم وجود الحشرات المزعجة والتي غالبا ما تمثل مصدر العدوى لكثير من الأمراض الفتاكة. وأيضا يضع في اعتباره كثافة الكائنات المفترسة وذلك باستعانة خبرة والده.
أما الإرث فهو المحطة الثانية، ويعتبر  أشهر طريقة لامتلاك هذه الثروة لدى ذكور الورثة، لأن المرأة الصومالية دائما ما تهمل نصيبها من إرث الإبل، ولا ترشح نفسها لنيل الفرض المقدر لها في القرآن الكريم ، وفقط تكتفي بالماعز والأغنام، ولعل هذا التنازل من طرف نسائنا نتيجة للضغوطات الثقافية.
وهناك طرق أخرى غير مشهورة أو منتظمة كالإعانات في حالة نفوق القطيع نتيجة للكوارث الطبيعية والأوبئة،حيث يقوم الجيران بتجميع عدد من الجمال للمتضررين وذلك لتخفيف أثر الكارثة التي حلت بإخوانهم في المنطقة ، وهي عادة حميدة تقوم على أساس المقولة المشهورة للصوماليين “من جاءك يطلب العون فأعطه زمام بعير أولحمه”
وعند الضيافة حليب النوق هو أول ما يقدم  كوجبة انتظار، وربما جاء وصف الإبل بالذهب الأبيض من هنا، إشارة الى اللون الأبيض الطباشيري للبن الإبل، وعادة ما يقف الصومالي الأصيل وسط القطيع ليتفقد بعيرا لا كبيرا في السن ولا صغيرا في الحجم، فينحره ويقدم لحمه للضيوف بعد تجهيزه  بواسطة ملكة البيت التي تتفنن في طهي وتشوية اللحم بطرق وأذواق مختلفة.
لا شك أن مهنة تربية الإبل صعبة للغاية، إلاّ أن درجة صعوبتها تعتمد على الفصول الأربعة للسنة فتشتد قساوة الرعي تدريجيا إلى أن تصل إلى ذروتها في فصل الصيف حيث تجفّ الأرض وتشحُّ موارد المياه وتتنافس الكائنات المفترسة لهجوم القطيع بحثاً عن ما يسدّ رمقها . وهذا الموسم من السنة يتطلب تجميع القوى البدنية من كهول القوم وشبابه، و يبدأ الترحال من مكان إلى آخر حسب توفر الكلأ والمياه،

وأثناء تنقل الفريق وقيامهم بأعمال السقيا يرفعون أصواتهم بأشعار وأهازيج تنسيهم المشقة وتطرد عنهم الفتور والكسل فتكون هذه أيضاً جرعة تنشيطية تنمي في نفوسهم روح الصبر والتحمل ليجتازوا هذا الفصل من السنة وليضمنوا سلامة رأسمالهم.
أما في فصل الربيع فلا تحتاج الإبل إلى عناية كبيرة من صاحبها لأن الأرض مخضرة ومياه الأمطار تصبُّ في جميع الأودية وفي كل البرك، حيث صغير الرعاة “دباطون” يتمكن من رعي مئة من الإبل دون أية مساعدة. وفي الليلة الرابع عشر من الشهور الهجرية في هذا الموسم يتجمع الشبان في أمكنة معينة، وتحت النور الساطع للبدر المكتمل لممارسة ألوان مختلفة من الألعاب والرقصات الشعبية، حيث يتنافس المراهقون لاستمالة قلوب الفتيات بالأشعار البليغة والأمثال الأدبية، والألغاز المحيرة، إلا أن هذا لايكفي ما لم يلزم نفسه  بتقديم قطيع من الإبل ليتأهل للمنافسة الصعبة، فكلما كان جاهزا لتقديم أكبر عدد كلما مال حظه بمغرية امتازت جمالا طبيعيا وجسدا متناسقا ذات عنق اغتنى عن حلي الذهب وسلاسل الفضة، وأطراف ناعمة لا تحتاج إلى نقوش الحنة والتزيين بالخواتم أما عيونها البراقتان  والرموش المحاطة بهما فاكتفت بسوادها الطبيعي، وعادة أهالي البنت لا يتعبون أنفسهم بالتفاوض مع الخاطب إذا لم يكن لديه  قطيع من حمر النعم. إذ أن هذا الحيوان هو أغلى شيء يقدم كمهر للسمراوات الصوماليات.

ولا يقف دور الإبل عند هذا الحد فهو أيضا يمكّن مالكه من الانضمام إلى كبار القوم وزعمائه، وغالبا ما يستمع القوم آراءه بآذان واعية عند اتخاذ القرارات الحاسمة للعشيرة عكس من يملك قطيعاً من الأبقار الذي لايسمح له بالجلوس تحت شجرة التشاور.
ولعل الأسباب المذكورة أعلاه هي التي تزيد حرص الراعي الصومالي على المحافظة على القطيع من التلف والنقصان فمثلا عند فقدان  ناقة واحدة من قطيعه يتحرك ويتتبع أثرها بقدرته الخارقة في تمييز أخفاف الإبل عن بعضها، وعند ارتخاء سدول الليل يسري ويغامر بنفسه  مصيغا بأذنيه لجرس الناقة ، ومتصامّا عن زئير الأسد وأصوات الحيوانات المفترسة الأخرى، وإذا أدرك أجزاء من جثة الناقة يشمّر إزاره استعدادا لمحاربة المفترس الذي اعتدى على قطيعه، ولا يعود للأهل إلا بعد إسقاء المفترس الجاني كأس المنون ، ولك أن تتصور الخطوات التي سيتخذها اذا حاول إنس أن يعتدي على إبله. فهو يفضل الموت ذودا عن إبله بدل الذل والهوان. وما أكثر النزاعات التي تتولد عادةً من محاولات سلب هذه الحيوانات النفيسة، وفي نفس الوقت مئة من حمر النعم كدية تكفي لإخماد استعدادات القبيلة للثأر من قبيلة أخرى. ولا تلعب الحيوانات الأخرى دورا يذكر في دفع الدية مهما بلغ عددها، ولهذا يكون الإبل ممهدا للسلام والأخوّة.
ومن العادات التي تساهم في الحفاظ على هذه الثروة عدم رضاء الصوماليين ببيع الإبل أو استبدال شيء  آخر بها؛ فصاحب مئة من الإبل ( أي ما يقدر قيمتها بالعملة الأمريكية ب 70 ألف دولار)  تراه لا يملك غير زوج أو زوجين فقط من الملابس، حرصاً على عدم بيعها، وإن حاول بيعها، فلوائح العشيرة لاتساعده في ذلك، و ليس من السهل أن يتفرد بالتصرف دون موافقة زعماء القبيلة الذين يعتبرون أن هذه الثروة مستقبل الأجيال القادمة.
ولسوء الحظ يبدو أن كل هذه العادات التي كان لها الفضل الأكبر في تنمية الذهب الأبيض في الصومال والمحافظة عليه تختفي آثارها نتيجة لتغير نمط حياة الصوماليين وانتقالهم إلى المدن، ولهذا علينا أن ندق ناقوس الخطر لنتمكن من محافظة مرتبتنا الرفيعة في امتلاك أكبر تعداد للإبل في العالم من خلال الحملات الإرشادية والوسائل البيطرية الأخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى