الاحتراق حرمانًا، مأساة اللاجئين اليمنيين في صوماليلاند

إحراق الشاب اليمني (جهاد محمد مهيوب) لنفسه أمام مقر المفوضية العليا للاجئين في مدينة “هرجيسا”، عاصمة صوماليلاند المعلنة من طرف واحد، كان مدار حديث الأوساط الإعلامية ليس في فقط في الجمهورية غير المعترف بها دوليًا بل شمل كل أنحاء الصومال، وسعت وسائل الإعلام الناطقة الكاتبة باللغة الصومالية تغطية الحدث ولفت النظر لمعاناة اللاجئين من اليمن الذين يقدّرون بثمانية وعشرين ألف لاجئ في عموم بلاد الصومال، رجع بعضهم إلى وطنه بعد أن يئسوا من الحصول على المساعدة.

إنّ ما قام به هذا الشاب اليمني  مؤذيًا نفسه بتلك الصورة المؤلمة والخطيرة، جعل الجميع يشعرون بحجم الجهل العربي بمعاناة أولئك المواطنين العرب الذين دفعتهم مآسي الحرب لمغادرة وطنهم، فيما غادر الكثيرون من الرجال بلادهم العزيزة عليهم، لعدم رغبتهم في التورّط في الصراع الأهلي الذي يحتّم قتل اليمني لأخيه اليمني، أو فرارًا من الانضمام قسرًا لطرف على حساب آخر، وكل ذلك في ظلِّ غياب وجود رسمي يمثّل الدولة اليمنية، وما هو من واجبها في رعاية حقوق ومصالح أبنائها الذين غادروا بلادهم قسرً.

وهذا ما دفعني لمحاولة الوصول إلى اللاجئين اليمنيين في أماكن سكنهم، عبر واحد منهم ليمكنني نقل معاناتهم للإعلام العربي الذي تجاهل أزمتهم بصورة تدعو للاستغراب بل والاستنكار، وخلال تنقلي ما بين أماكن سكنهم البائسة المتناثرة في أجزاء متعددة من المدينة “هرجيسا”، وجدت حالات غاية في الخطورة لشدّة ما عانته من الإهمال، وحجم الفاقة والعوز الذي يعانيه أبناء هذا الشعب الشقيق الذي يكاد يزيد صعوبة أوضاعهم تعففهم والأنفة التي يظهرونها، ما يجعل المحيطين بهم لا يكادون يشعرون بالحالة الخطيرة من الاحتياج للعون والمساعدة التي يعايشونها، بالغة حدّ عدم قدرة بعضهم على الحصول على الطعام لعدّة أيام، لانعدام فرص العمل وخروجهم من بلادهم في حالات كثيرة بالثياب التي يلبسونها.

أثناء ذلك يقودني شاب يمني لاجئ، رغم معاناته الشديدة لازال يحاول أن يكون في عون من حوله، ويأخذني إلى هذه الأسرة اليمنية المكوّنة من أم أرملة وابنة مطلّقة وطفلين أحدهما في الرابعة عشرة والآخر في الثالثة عشرة من العمر، وخلال أخذي للمعلومات التي أقوم  بجمعها من سلسلة مستمرة من الزيارات للعائلات والأفراد اللاجئين من اليمن، والتي كنت أنتوي نقلها في تقرير مفصّل مدعوم بالشهادات والصور على ما يحدث لهم، وصلت إلى هذه الأسرة والتي لم تترك لي حالتها وحالات أخرى سبقتها، من بدّ سوى أن أقوم بعمل لقاءات صحفية ليتم نشرها في أسرع وقت ممكن لوضع حدّ للمعاناة الهائلة التي يتعامل معها أفراد يمنيون أسر يمنية كثيرة بصبر وشجاعة، رغم أنني لم أستطع تمالك نفسي من مجرّد سماع ما قد مرّوا به.

ندخل إلى بيت صومالي عادي، وإلى غرفة منه قريبة من الباب الرئيسي مطلّ شبّاكها على الزقاق، تستقبلنا السيدة (ر. ن.) وتدعونا لمقابلة والدتها (أ. م.) وطفليها، وبعد التحية أجيل النظر في الغرفة المتواضعة التي تحتوي سريرين و فراشي نوم من الاسفنج، وتشير السيدة “ر.ن” إلى أنهم لا متلكون من هذا الأثاث سوى فراشًا اسفنجيًا واحدًا خرجوا به من (عدن)، لأن ربّة بيت هذه العائلة الصومالية هي من وضع لهم بقية ما نراه في تلك الغرفة، التي يسكنون فيها دون مقابل.

تصرّح السيدة “ر.ن” بأنّها وأمها وابنيها خرجوا من مدينة (عدن) بسبب القصف المدفعي، وخلّفوا وراءهم مصدر الدخل الوحيد الذي كان لهم، وهو المعاش التقاعدي المتواضع الذي تركه والدها لهم، ومنذ وصولها عبر ميناء “بوصاصو” وخلال خمسة أشهر قضتها في “هرجيسا” لم تحصل سوى على الوعود من كل الجهات التي تولت أمر مساعدة اللاجئين، والنذر اليسير من المساعدة، وهو ما جعل أصحاب البيت الذي استأجرت فيه غرفة، يطلبون منها البحث عن سكن آخر لاحتياجهم لأجرة الغرفة، ما جعلها تضطر للخروج وعائلتها إلى الشارع والجلوس دونما أمل، حيث وجدتها هذه السيدة التي تقيم عندها الآن، والتي سألتهم عن سبب جلوسهم في الطريق، فقامت باستضافتهم في بيت أسرتها وقامت بالاعتناء بهم بقدر استطاعتها، إلّا أن ذلك لا يمكن أن يستمر للأبد، فالناس هنا يحاولون المساعدة لكن الظروف المعيشية ليست سهلة بالأصل، وأي مساعدة يقدمونها إنّما تكون باقتسامهم معنا ما هم في حاجة إليه.

ننتقل إلى حي آخر، حيث ندخل منزلًا من غرفة واحدة خاليًا تقريبًا من أي شيء سوى فراشي نوم، نسأل عن سبب الظلام الذي يخيم على هذا البيت، يخبروننا أن السيدة التي تسكنه، تقيم فيه دون كهرباء منذ فترة طويلة، نلتقي بها وتخبرنا السيدة (ز.أ) أنّها أرملة وأم لطفلتين، قُتِل زوجها في القصف الذي تعرّض له بيتهم، وقد أصبحت دون معيل منذ حينها، وتقول: غادرنا اليمن بما تبقى لي من مال قليل، خوفًا على نفسي وبناتي على السفينة “نوبة1” من (عدن) إلى (بربرة)، ونحن هنا منذ نهاية شهر فبراير، لم أتلقّ أي مساعدة منذ وصولي سوى مرّة واحدة وكان ذلك في شهر رمضان الماضي، أحاول تدبّر الأمر بصعوبة ولولا مساعدة الجيران لكنّا انتهينا، وأنا مجبرة على ترك المنزل خلال أيام، لأن صبر أصحاب المنزل قد نفد، ويطلبون مني أن أجد سكنًا آخر، دون أن أمتلك أي مال.

حالة أخرى مررنا بها وهي للسيد (ع.ع.ع) رجل مسنّ وأب لطفلين برفقة زوجته، استقبلنا بكثير من الترحاب، خارج منزله المؤقّت أمام أحد البيوت، يقول أنّه خرج بأسرته الصغيرة من (عدن) إلى (المكلّا) ومنها إلى (بربرة) خوفًا على أطفاله وزوجته ونفسه من الحرب المروّعة التي احرقت حيّه في (عدن)، وحين تساءلنا عن سكنه في ذلك البيت الصفيح الذي يشبه الدكاكين التقليدية في (هرجيسا)، سرد لنا كيف قضى وزوجته وطفليه يومين وليلة يفترشون الطريق، لعجزه عن دفع أجرة الغرفة التي سكنوا بها، وأنّ سيّدة صومالية كبيرة في العمر، مرّت بنا متسائلة عن سبب جلوسنا كل هذه المدة هناك، وحين علمت بحالنا فتحت لنا دكّانها هذا واقترحت علينا أن نقيم فيه دون مقابل حتى يدبّر الله أمرنا، ونجد من يعيننا على الوضع الصعب الذي نمرّ بهن وبدأ الجيران يرسون لنا من طعامهم، وحين سألته عن المكان الذي يستخدمونه كحمّام، اخبرني بأن زوجته تستخدم حمام بيت السيدة التي أسكنتهم، وأنه وطفليه يستخدمون الحمام العام.

كان هذا الرجل مبتسمًا في أمل وإيمان، وهو يقول هذا الذي نحن فيه امتحان من الله، سنصبر ونستمر في مراجعة الجهات التي وعدتنا بالمساعدة، رغم أنّها تكلفنا الكثير من المال والجهد لكثرة ما تتطلبه منّا للمراجعة والذهاب والإياب دونما أي فائدة تذكر، سوى ما تلقيناه من الأرز 25 كجم والسكر 25كجم والزيت عبوة متوسطة، ومائة دولار خلال الشهور التي قضيناها في صوماليلاند ونحن نبحث عن الأمان والرعاية حتى نستطيع العودة إلى وطننا أو يقضي الله لنا ما يشاء.

ونلتقي بالسيد (ع. أ) هو رجل عسكري كان يتولى مسؤولية أمنية، اضطر لمغادرة اليمن، بعد اعتقاله لعدة أيام، وتعرّضه للخطر لرفضه التعاون مع الحوثي، يؤكد أنّه منذ وصوله إلى البلاد من (بربرة) عبر ميناء (المخا) منذ ثلاثة أشهر، هو وزوجته وطفلاه لم يجدوا من العون سوى ما ذكره الآخرون.

ونقوم بزيارة السيدة (ل.أ) التي تقول أنها كانت امرأة منتجة، عملت في السلك التربوي باليمن معلّمة، حازت خلال ذلك على الكثير من التكريم تقديرًا جهودها، اضطر وأطفالها الستة إلى مغادرة اليمن بعد المعارك التي شهدتها مدينة (عدن)، ولم يستطع رب الأسرة اللحاق بهم، تقيم في غرفتين قدمها لهم رجل من أهل هرجيسا، بعد أن وجدها وأطفالها دون مأوى، شعرتُ خلال لقائي بمقدار الحزن العميق الذي تشعر به لعجزها عن تأمين التعليم لأبنائها الستة الذين أنهى الثانوية العامة ثلاثة منهم، في حين أن الثلاثة الآخرين لازالوا في المراحل الدراسية المدرسية، دون أمل في أن أتجد ما يمكنها من مساعدتهم على متابعة دراستهم.

وقد مررنا على بعض اللاجئين، ممن أخبرونا بأن هناك حالات يتم التعامل مع اللاجئين فيها بصورة تحرمهم، من أي حق في الحصول على التسجيل وحرمانهم حتّى من الانتظار على أمل وصول المساعدة، لدعاوى منها التشكيك بمواطنتهم، نظرًا لاعتبارات عنصرية تعتمد اللون أساسًا، أو اعتبار اليمني من أب يمني فقط أو أم يمنية فقط غير مستحق للنظر في أمره ومتابعة حالته، حتى إن كان يحمل الجنسية اليمنية!

وتتلخص المساعدات التي تلقاها اللاجئون القادمون من اليمن بجنسياتهم المتعددة من اليمنيين واللاجئين من بلدان القرن الإفريقي ونيجيريا وفلسطين وغيرها، لم يتسلموا في غالب الأمر بعد طول مراجعات وتكررها سوى مبالغ لا تتجاوز المائة دولار لمرّة واحدة أو مرّتين لغالبية اللاجئين، ناهيك عمّا يجري من التفاوت في توزيع المبالغ المالية التي يتبرّع بها تجّار محليون، بحيث يتم توزيع مبالغ تصل 300 دولارًا لليوم الأول مع وجود تغطية إعلامية، وانخفاض المبلغ إلى 100 دولار للفرد في حال غياب الحضور الحكومي والإعلامي، دون وجود تبرير لما يجري، إضافة  إلى أن ما تم توزيعه من الأرز والسكر والزيت المتكرر ذكره إنّما تم لمرّة واحدة، ومساعدات بسيطة كحصيرة واحدة وقدر وصحون وأدوات أكل لشخص واحد، تم توزيعها لمرة واحدة.

إن ما يعاني منه اللاجئون اليمنيون في “صوماليلاند”، يتلخّص في سعي الدولة لعدم التدخّل في سير المساعدات إليهم، تقليلًا لعوائق العمل البيروقراطي، حتى لا يكون سلبية مضافة لضعف الإمكانيات الحاصل، مكتفية بالسماح لهم بالدخول إلى البلد دون موانع، وضمان سلامتهم وأمنهم على أرضها، مانحة مساحة كبيرة من حرية الحركة للمنظمات الأهلية العاملة بديلًا عن غياب التام لأي وجود قنصلي أو دبلوماسي رسمي لليمن في العاصمة “هرجيسا”، وإن كان إشراف بعض الجهات الرسمية وشبه الرسمية لا يخلو من ظلال فساد شديد، خاصة مع تراخي الجهود في قيام الدولة في صوماليلاند بمتابعة عمل المنظمات الدولية التي لم تكن على الاستعداد الكافي لاستيعاب حجم اللجوء إلى البلاد الحاصل، رغم ضألته.

إلّا أن كل ذلك لا يقلل من مأساوية الوضع الذي آن أوان العمل على إحداث تغيير فيه، دون أن يكون خفيًا شعور اللاجئين بالخذلان والتضييع والإهمال من قبل إخوتهم في دول الخليج العربي، من رجال الأعمال اليمنيين والمنظمات الخيرية وإخوتهم مواطني تلك الدول، لعدم وجود أثر لشعور بهم وانعدامٍ لأي مساعدة تصل إليهم وهم المتضررون المطلوب إخراجهم من هذه الحالة، وتقديم العون المادي والمعنوي لتحسين الأوضاع الحرجة التي يمرون بها، لاستيعاب احتياجاتهم الأضرورية، والحفاظ على كرامتهم، ولم يخف الكثيرون أملهم في قيام الحكومة اليمنية بإرسال موفدين خاصين منّها، مشهود لهم بالوطنية والاستقامة، ليقوموا بالمهام المضيّعة، بعيدًا عن العنصرية والفساد والمحسوبية والقبلية والطائفية،  لحين عودة هؤلاء المهجّرين إلى وطنهم سالمين، أو قيام المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة بإعادة توطينهم في البلدان المستقبلة للاجئين، حيث يمكن تقديم العون اللائق بهم بصورة منظمة وإنسانية.

جهاد محمد مهيوب في مستشفى (أدنا آدن) بمدينة هرجيسا1 (1) دكان الصفيح الذي تحوّل إلى بيت لاجئ يمني شهادات اللجوء من المفوضية 1 شهادات اللجوء من المفوضية 2 شهادات اللجوء من المفوضية منظر لمسكن لاجئين يمنيين 1 منظر لمسكن لاجئين يمنيين 2

زر الذهاب إلى الأعلى