أحلام ثقافية (ركن أسبوعي) عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي ( 15)

سماحة الشيخ محمد خير بن عمران الرحنويني رحمه الله

ولادته ونشأته ورحلاته العلمية:

نتناول هذه الحلقة جزءاً من ترجمة فضيلة الشيخ محمد خير بن عمران بن حسن بن أدم بن إبراهيم اللوايي الرحنويني الصومالي رحمه الله، صاحب السياحة والطواف إلى أماكن كثيرة للدعوة إلى الله ولنشر العلم والمعرفة في أكثر من بلد ، وصاحب اللغات واللهجات المتعددة.وفضيلة الشيخ محمد خير بن عمران من مواليد قرية أفرو Ufurow احدى القرى الزراعية التابعة بمدينة بيدوا في محافظة باي في عام 1350هـ، وتربى في تلك المنطقة عند أسرة رحل من أب وأم ينتمان إلى آهالي تلك المناطق الزراعية المشهورة بالتدين وحب الاستقرار، ومن هنا فلا يستغرب أن التحق الطفل بما يسمى دكسي – أي خلاوي تحقيظ القرآن- المعروفة في القطر الصومالي وغيره في منطقة إفريقيا الشرقية، وتمكن بفضل الله حفظ  نصف القرآن الكريم على يد معلم عبد الرحمن معلم حسن اللوايي الرحنويني في قرية أفرو ، وقبل أن يكمل الطفل حفظ القرآن انتقلت أسرته إلى بادية بعيدة عن قريتهم ما بين مدينتي بيدوا وبورهكبة حيث أقاموا هناك لمدة أربع سنوات ، و خلال تلك الفترة استطاع أن يكمل الشيخ محمد خير بن عمران ما تبقى من حفظ القرآن الكريم كله ، وقد تأخر على الأمر بسبب تنقلات الأسرة وانشغال الشاب لمساعدة أمه وأبيه في المواشي والزراعة مع هذا كله استطاع أن يكمل حفظ القرآن الكريم كله – كما أشرنا آنفاً – ولكن في وقت متأخر بخلاف عادة أهل المنطقة. ثم بعد فترة استأنف التعليم وبدأ دراسة علوم الفقه وخاصة الفقه الشافعي على يد الشيخ محمود أغاري Ugaaray من قبيلة إيلاي المعروفة  في احدي القرى التابعة مدينة بورهبكة، وكان عمره  – أي عمر الشيخ محمد خير بن عمران رحمه الله – حوالى 22 سنة، وقد أخذ الشيخ محمد خير من شيخه الشيخ محمود أغاري كتب عدة مثل  سفينة الصلاة ، وأبو شجاع ، والمنهاج الشافعي. وقد استمر الشيخ محمد طلبه للعلم ولكن هذه المرة رحل إلى إقليم شبيلى السفلى في منطقة طوبلي Dhoobleeyحيث تتلمذ على يد الشيخ محمد اللوايي الذي كان من طلاب منطقة غلوين Golweyn  قرب قرية بلو مرير Buulo Mareer واستفاد من حلقة شيخه هذا علماً نافعاً ولاسيما في مجال الفقه عندما درس كتب القاسمي والمنهاج للنووي ولكنه لم يكمل وإنما توقف عند جزء العبادات ، وقد أقام هناك قرابة ثلاث سنوات متتالية بدءاً من عام 1365ه وحتى 1367ه. وأثناء ذلك تتلمذ أيضاً على يد الشيخ يوسف الأيمدي الرحنويني في قرية مانيو مرغ Maanyo Murug التابعة لقرية قريولي، حيث واصل دراسة كتاب المنهاج حتى أكمله في هذه المرة.

وفي عام 1367ه استأنف رحلته ولكن هذه المرة إلى خارج الوطن لأداء شعيرة الحج والعمرة وسافر الشيخ محمد خير بن عمران إلى الأراضي المقدسة بدءاً بمكة المكرمة عن طريق البر المتعب والتي استمرت قرابة أربعة شهور من جنوب الصومال إلى شمالها ومن ثم عبر أراضي جيبوتي ثم إلى اليمن بواسطة الباخرة ، وقد وصل أول الأمر قرية دباب اليمنية ثم إلى جيزان ولكن عن طريق البر، وكان ذلك شهر رمضان عندما دخلوا المملكة العربية السعودية وقد قدر الله مشاركة موسم الحج عام 1377ه، ثم واصل رحلته إلى المدينة النبوية قرابة شهر ونصف مشياً بالأقدام ، وبعد أداء فريضة الحج رجع إلى بلاده الصومال. ولم تطب نفس الشيخ محمد خير بن عمران الإقامة في البلاد حيث كانت عاطفته تعلقت بالأراضي المقدسة وعلى إثر ذلك رجع مرة أخرى إلى الأراضي المباركة لأداء فريضة الحج وبالتحديد عام 1379ه. ولما أنهى شعيرة الحج مكث في مكة  من عام 1380ه وحتى عام 1382ه بحيث استمر مواصلة رحلته العلمية والتحق الحلقات العلمية المنتشرة على جنبات الحرم المكي الشريف ولاسيما حلقة الشيخ محمد أول الإيثوبي المشهور بالحجاز وفي منطقة القرن الإفريقي، وحلقة الشيخ حسن مشاط أحد شيوخ الحرم المكي من العلماء البارزين في مكة، وحلقة الشيخ علوي المالكي والد الشيخ محمد علوي المالكي الذي كان له وابنه حوارات وخلافات مع العلماء السلفية، وحلقة الشيخ محمد نور سيف والد الشيخ المحدث أحمد بن الشيخ محمد نور سيف، وكان أيضاً ممن نهل مجلس الشيخ المحدث محمد بن عبد الله الصومالي، وكل هذه شيوخ كانوا من أهل مكة ولهم حلقات خاصة في الحرم المكي. كما انضم حلقات الشيخ عبد الحق الباكستاني المكي وحلقة الشيخ محمد خير الباكستاتي أيضاً بحيث أخذ كل هذه الشيوخ الحديث وعلومه في داخل الحرم المكي.

ثم سافر إلى المدينة المنورة عام 1384ه والتحق هناك بالجامعة الإسلامية ، وكان سبب دخوله الشيخ أبو بكر الدافيدي الصومالي رحمه الله الذي وصل قبله وحثه على ذلك ، وكان عُمْر الشيخ محمد خير بن عمران آنذاك 34 سنة ، وبدأ دراسته في المعهد ثم التحق بكلية الشريعة في الجامعة الإسلامية عام 1387ه وتخرج بعد خمس سنوات وبالتحديد عام 1391ه.

صاحب الدعوة والسياحة إلى الله:

وبعدما تخرج فضيلة الشيخ محمد خير بن عمران رحمه الله اختير إلى بعثة الدعاة من قبل رابطة العالم الإسلامي كمدرس في مدرسة دار الحديث في مدينة بواكي بجمهورية الساحل العاج في غرب إفريقيا، وقد أقام هناك فضيلته حوالي عامين، وخلال وجوده في المنطقة لم يكتف نشاطه بالتدريس  النظامي للمدرسة وإنما كان يختلط المجتمع الإسلامي هناك وتزوج منهم حتى أصبح شخص منهم، وبالتالي وكان من السهولة أن يتجول في البلاد طولها وعرضها ويقوم بجولات وصولات دعوية في البلاد.وهذه السمة أثرت على نفسه حيث لم يكن يهدأ رحمه الله حتى حين كبرت سنه ورجع إلى الديار الإسلامية سواء في السعودية أو في أماكن متفرقة في منطقة القرن الإفريقي، بحيث كان طوافاً وناشراً للدعوة الإسلامية في كثير من أنحاء المملكة العربية السعودية بدءاً بمسجد جاره مسجد الزهيري في حي الملاوي بمكة المكرمة ومساجد أخرى في المملكة ، وكثير ما كان يزور بحي كيلو سبعة بمدينة جدة حيث كان أغلب السكان من أهل الصومال، وكان لدى الشيخ تسريحاً يسمح له الدعوة من قبل صاحب السماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز كواعظ مسجل من مكتب الدعوة والإرشاد. وكانت تمتاز دعوته بأنّه كان يستخدم بلسان قومه وهو من الدعاة القلائل الذين يجيدون اللغة الصومالية وبعض لهجاتها مما كان له ترحيباً واسعاً لدى من يتحدث ويفهم فقط بهذه اللهجات مثل لهجة ماي التي يستخدمها قطاع كبير من مجتمعنا الصومالي.

نشاطه العلمي والثقافي:

وهذا النشاط والجهد العلمي والثقافي جاء على قوالب جديدة في حياة الشيخ محمد خير بن عمران رحمه الله سواء في عملية التدريس للمدارس النظامية مثل مدرسة دار الحديث في الساحل العاج بغرب إفريقيا، أو في سبيل بناء وتأسيس صرحاً من صروح العلم والمعرفة في السودان والذي أصبح فيما بعد أحد منارات العلم في تلك المنطقة التآخمة على الحدود مع الإرتريا والبعيدة عن عاصمة الخرطوم. ومهما كان فقد استمر الشيخ نشاطه الدعوي بالإضافة إلى نشاطهعلمي وثقافي في إفريقيا التي أحبها فضيلته،ولكن هذه المرة في شرق القارة بحيث تحول إلى دولة السودان حيث أقام في منطقة كسلا في شرق البلاد واستقر هناك قرابة عامين ، وخلال وجوده هناك أسس معهد  أنصار السنة وأصبح من مدرسيها،ولا يستغرب في ذلك لأنّ فضيلته كان ممن نهل من مجالس الشيخ محمد عبد الله الأغاديني الصومالي والشيخ محمد نور سيف  وغيرهم الذين اشتهروا في مجال السنة وما يتعلق بها من الحديث وعلومه. واستمر الشيخ على هذا المنوال دارساً بالمعهد وداعياً إلى الله في داخل المجتمع حتي جاءت فترة الإجازة في عطلة الصيف وسافر إلى المملكة العربية السعودية وكان ذلك في عام 1396ه غير أنه لم يرجع إلي السودان وإنما استقر في داخل المملكة وسكن مكة المكرمة ومع ذلك لم تنقطععلاقتهبإخوانه وطلابه في منطقة كسلا وبالذات المعهد الذي أسسه وأرسى قواعده حتى استقام، بل وكان رحمه الله يهتم بهم ويؤازرهم. وقد اختار الشيخ محمد خير بن عمران منطقة كسلا لسبب كان يعرفها وأصرّ على تأسيس معهد للعلوم الشرعية فيها ، وقد أخبرني الشيخ محمد خير بأنه يأتي إليه إلى مكة جموع من طلبة العلم من معهد كسلا ويلتقي في كل موسم من مواسم الحج والعمرة هنا ممن أصبح علماء وقادةنفع الله بهم الأمة وبعض من نال الدرجات العليا في الجامعات ولله الحمد والمنة. وفعلاً كنا نلتقي في رحاب جامعة أم القرى أيام دراستنا هناك مع عدد كبير من بعض إخواننا تخرجوا في هذا المعهد وكان أغلبهم من إربيريا وكثير منهم نالوا درجات عليا في البحث العلمي من الماجستير والدكتوراه.

زهده وصبره وتفرغه بالوعظ والإرشاد

ولم يتخل فضيلة الشيخ محمد خير بن عمران رحمه الله مجال الدعوة إلى الخارج رغم أن جل جهوده وجه في داخل الممكلة العربية السعودية بعد رجوعه إليها من السودان، يطوف المدن والمناطق في المملكة واعظاً  وداعياً إلى الله ، كما استمر مجال خروج الدعوة إلى خارج المملكة وخاصة منطقة القرن الإفريقي قرابة 35 سنة بموافقة مفتي الديار السعودية سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله باز رحمه الله بحيثأوصاه الملازمة في ذلك.

وجل من كان يعرف الشيخ محمد خير بن عمران رحمه الله كان يدرك بأنّ فضيلته يواظب السياحة إلى دعوة الله والخروج إلى أكثر من بلد، وقد رزقه الله حبّ الدعوة وتبليغ الرسالة المحمدية ولاسيما الجوانب التي تركز على التوحيد والعقيدة الإسلامية، ولا غرابة في ذلك لأنه في أثناء دراسته في الجامعة الإسلامية رسخت عقيدة السلف، بل  وتعمقفي فهمها ، وإن كان فهم حقيقة العقيدة الإسلامية في بلاد الصومال، غير أنه لما وصل إلى الأراضي المقدسة تمكن تصحيح بعض الشوائب والخرافات التي لم تكن لها علاقة بالدين الإسلامي من خلال الحلقات العلمية التي كان يتلقاها في الحرم المكي الشريف على أيد علماء أجلاء ثم في الأروقة العلمية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة كما أشرنا آنفاً. وكان رحمه الله بعيداً عن الرياء والسمعة والظهور، وزاهداً عن الذنيا وملذاتها، ولعل ذلك مما ساعده في أن يتفرغ الدعوة إلى الله، وخلال أداء هذه المهمة اعترضت بعض الصعوبات والمشاكل ومع ذلك كان صابراً جلداً لا يتزحزح عن الطريق والهدف المنشوذ، وقد أذاه بعض الناس في داخل بلاد الصومال وخارجها ، بل أنّ بعضهم رموه بالحجارة وما شابهها عند قيامه بتصحيح العقيدة وتبيين الحق ونبذ الخرافات والخزعبلات التي كان بعض الناس يرتكبها في مناطق بيدوا  وبورهكبة ، ولكن حادثة سجن الشيخ في مدينة بارطيرا بمحافظة جدو الصومالية في منتصف الثمانينات في القرن المنصرم كانت مشهورة حتى تتدخل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله باز ، وكذلك الشيخ طاهر عبدي المكي المريحاني بحيث توسط الأخير إلى خالته خديجة معلم  حرم رئيس الجمهورية آنذاك الرئيس محمد سياد بري رحمهم الله جميعاً وقد نجحت الوساطة بحيث أفرج الشيخ الذي سجن ظلماً وعدواناً عندما أفتى حرمة أكل القات وتعاطي الدخان والدعاء والاستغاثة لغير الله، بل كل ذلك نتج عند أداء مهام الدعوة إلى الله. وكان فضيلته صاحب الحديث العذب يمزج أحياناً كثيرةً ببعض الفكاهة والمرح ، ويستأنس بالأدب والحكم ولاسيما الأدب والحكم الرحنوينية التي كان يجيدها بالإضافة إلى الأدب والحكم العربية . وقد حضرتُ أكثر من جلسة معه ، وأتذكر حديثه وكلامه في حفلة الزفاف لأحد إخواننا بمكة المكرمة هو الشيخ عبد الكريم على فارح الشيخالي، وقد ألقى الشيخ محمد خير بن عمران كلمة خشع بها الحاضرون ، وفي الوقت نفسه أدخلت في قلوبهم البهجة والسرور عندما ألقى نتفاً من شعر  صومالي ولكن باللهجة الماي.

وفاته:

وتوفي سماحة الشيخ محمد خير بن عمران اللوايي الرحنويني الصومالي في عام 2006م في مكة المكرمة  بعد أن ذهبت نور عينيه ولكنه كان يستنير بنور قلبه ، ودفن بمقابر العلا بجوار إخوانه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله باز والشيخ محمد بن عبد الله الصومالي والشيخ أدم شيخ عبد الله المريحاني رحمهم الله جميعاً وأسكنهم في فسيح جناته.

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى