هل نحتاج إلى إعادة قراءة تاريخ الصراع الصومالي الإثيوبي ؟

عرفت الصومال خلال السنوات الثلاثيين الأخيرة سلسلة من التحولات والاضطرابات الداخلية جراء الحروب الأهلية وغياب الحكم المركزي، نتج عنها اهتزاز في عملية بناء ثقافة  المجتمع وحضارته، وتخلف في تطوير الذاكرة الجمعية على ضوء الحقائق التاريخية، وأصبح هناك نوع من صراع الذاكرة والوعي في مجتمعنا حول قيم الوحدة كأمة واحدة من خلال نشأتها كدولة لكيان وشعب واحد، ومن ثم دخول عوامل الضعف والتفكك على الدولة وعلى المجتمع مما أدى إلى التشرذم وانهيار الدولة، والاقتتال الداخلي على أساس قبلي ومناطقي والاستجداء بالعدو التاريخي على الخصوم الداخلي.

 هنا أرى ضرورة ضبط فهمنا لتاريخنا ورموزه، وقراءته وإعادة صياغته من جديد لكي يتمكن الجيل ما بعد انهيار الدولة تلقي الحقائق التاريخية كما هي بدون تلوينها بلون معين لصالح طرف على حساب طرف آخر، ووفق منهجية علمية صحيحة خاصة تلك المتعلقة بصراعنا مع الحبشة بشقيه الديني والقومي.

لقد شهدت طريقة استحضار  الذاكرة التاريخية عند تفسير الحوادث والتحولات السياسية الراهنة في مجتمعنا  تغيرا هائلا، و أخذت منعطفا خطيرا يهدد تماسك الشعب ، وسلامة ووحدة أراضيه. وقد رأينا في الأوانة الأخيرة تباينا  واضحا في سرد تاريخنا وتراثنا الشفوية والمكتوبة حول الوحدة كأمة وككيان سياسي، والصراع مع الجيران،  ولكن للأسف، فغالبا ما يكون هذا السر سردا انتقائيا لا تشفي غليل الجيل الجديد، ولم يسلم من هذا السرد الانتقائي حتى الحوادث التاريخية التي شاركت إلى جانب الصوماليين شعوب أخرى في صناعته، مثل حروب فتوح الحبشة.

فمحاولة التخندق حول الوقائع التاريخية في الماضي القريب والتي حكمت في طريقة تفكيرنا و تعاطينا مع مخلفات الاستعمار الأوروبي كالحدود الجغرافية، والذي يستند إلى عقلية بدوية عشائرية بحتة، و تسويغه كمبرر لفشل الوحدة، لعب دورا محوريا في ظهور الدعاوى الانفصالية لدى فئة من الشعب، واخترعوا مسوغات تاريخية لمشروعهم الانفصالي مشفوعة بمظلوميات قبلية في مقالب سياسية، متجاهلين أن وحدة الدين  والعرق واللغة واللون كانت سابقة عن وحدة الكيان السياسي لشعب واحد، الذي حدث بعد الاستقلال فى ١٩٦٠.

 استدعاء التاريخ ورموزها وتوظيفها في المصالح القبلية والمناطقية، وتخليط وإعادة حوادث و موضوعات تاريخية في تحقيق غايات فئوية ضيقة، لم تساهم إلا في توسيع الفجوة بين الشعب و تسببت أيضًا شرخا في نسيج المجتمع الواحد، حتى تلك التي تريد الانفصال لم تستطع احتواء الفئات الأخرى في داخلها المناوئة للانفصال، بل حاولت إرغامها على القبول بالانفصال بالقوة بدعوى الأغلبية.

 لقد كان لتاريخ الصومالي وجوه أخرى خلافَ ما هو شائع عنها من صور مجتزَأة، ساهمت للأسف في ترسيخ الذاكرة التاريخية الحديثة  منها والقديمة وتكريسها وتركيزها في أذهان الشباب بشكل خاطئ، بحيث غابت تفاصيل وجوانب غير مضيئة منه وتفاصيل الحياة اليومية للشخصية الصومالية في السلم والحرب، فلم يكن الصوماليون في الماضي فقط أهل حرب ونِزال، ولم تكن كذلك الصومال دولة مترامية الأطراف مفعمة بالقوة زاهرة بالعمران، بل عرف الصومالي كذلك النهب والسلب والقرصنة وقطع الطريق، وضروبا من الأعمال السلبية.

تعيد أحداث اتفاقية التفاهم بين إثيوبيا و ما يسمى جمهورية صوماليلاند إلى الأذهان  فترة الاستعمار الأوروبي وسعي إثيوبيا الحبيسة الحثيثة للحصول على منفذ بحري عبر أراضي الصومال لأهمية بلاد الصومال التاريخية والاستراتيجية لإثيوبيا،  خاصة منطقة زيلع والتي يزعم الإثيوبيين انها منفذهم البحري  التاريخي منذ القدم، وكونها نقطة التلاقي بين آسيا وأفريقيا وحلقة الوصل بين القارات وممر التجارة العالمية لاسيما بعد فتح قناة السويس.

لقد ظلت ذاكرة الصوماليين الجمعي في  العلاقات الإثيوبية الصومالية مرتبطة بالحروب الدينية وغزوات أحمد غري في القرن السادس عشر الميلادي، تلك الذاكرة التي لا تزال حية في قلوب الشعبين ولم تسقط بالتقادم لأنها أصبحت إرثا يتوارثونها جيلا بعد جيل ولم تستطع تتابع الأحداث التاريخية المتقلبة عبر خمسة قرون محوها من ذاكرتهم. ويلجأ كل فريق عند تجدد الصراع استدعاء تلك الأحداث لإيقاظ النفوس وتحريكها وزرع الحماسة فيهم،  ولا يمكن اختزالها فقط بالجانب الديني من الصراع وفي سياقها التاريخي فحسب، لأنها تتعدى إلى ما هو أبعد وأوسع منه، هناك عوامل أخرى اطرت  للصراع  واعطته أبعادا أخرى تتداخل فيها عناصر عدة، حيث يمثل الجانب الإثني والعرقي والاجتماعي أحد أبرز مظاهره، رغم ثبوت بالأدلة التاريخية دور الدين الواضح في الصراع يجادل البعض مدى تأثير العقيدة في إذكاء الصراع الصومالي الإثيوبي وتأجيج ناره ويحاول إبقاءه فقط في دائرة صراع المصالح الاقتصادية والجيوسياسية.

خالد إبراهيم

باحث في تاريخ الصومال
زر الذهاب إلى الأعلى