ايّام في القاهرة: الجامع الازهر. (الجزء الرابع والأخير).

بعد ان مكثت في ساحة مسجد سيدنا الحسين عليه السّلام ساعة او ساعة ونصف كما تناولنا في المقالة السابقة، واقترب وقت صلاة العشاء، ذهبت الى الجامع الأزهر قبل الأذان. ولما وجدت الباب مفتوحا غمرتني السعادة كمن ظفر بضالته المنشودة، وسألني البواب عما إذا كنّا احضرنا معنا سجادة للصلاة، كإجراء احترازي للوقاية من الكورونا، فرفعنا السجادة في أيدينا. رايت عند الباب رجلا يمنعه الحراس من الدخول، وهو يجادل مجادلة عنيفة، ولما استوضحت الامر من بعض الاخوة قيل لي: ان الرجل ليس مسلما ! ولم أتثبت بنفسي من حقيقة الامر، خوفا من الانجرار الى كلام لا يعنيني ولا يفيدني، بل قد يضرني ويحرّمني من الصلاة في الجامع الأزهر. أسرعت الخطى وقد أحزنني ما سمعت، ولو كنت في مكانهم لاذنت له بالدخول. فالجامع الازهر ليس مكانا للمسلمين فقط، وانما هو كذلك معلم اثري بارز، يجد عنده الزائرون من اهل الملل الاخرى لذة ومتعة. وما يدرينا، فقد يكون لرجال الامن العذر في سلوكهم هذا، والوقت ليل، والصلاة صلاة العشاء، والزمن زمن الكورونا، وما يجلبه معه من تقييد، وما يفرضه على الناس من شروط واحترازات، وما ينشره في الحو العام من رعب وخوف وقلق. خلعت نعليّ عند باب ساحة الجامع المقدس، كما خلع موسى عليه السلام نعليه في الوادي المقدّس، وفي طريقي الى المسجد مررت على ساحة الجامع الفسيحة، فابهرني بهجة المنظر، وروعة البناء، وما يحيط في إرجائها الواسعة من الأبهة والجمال. ونظرت الى المنارات التي تعلو في سماء الجامع، مزينة بأنوارها الخضر، فادهشني ما رايت، وكأن المآذن في الجامع تصعّد الى عنان السماء، وتعانق الفضاء، وتستمدّ القوة والجلالة والهيبة من ملكوت الله في السماء، وتناجي ارواح عباده الصالحين التي رفعها الله اليه. ولما راني رحال الامن واقفا في الساحة وحيدا، وأتجول فيها يمينا ويسارا، تارة ارفع راسي، متأملا مناظرها ومآذنها، وطورا اخفضه، مستغرقا أراضيها وبلاطها وجدرانها، وما يحيط بها من الروعة والهالة، شككوا في امري، وربما ظنوا بي الظنون، فاشار احدهم اليّ بيده: ان اذهب وادخل المسجد، فلم اصغ الى قوله، وتظاهرت كأني لم أر إشارته او لم افهم مغزاها، ثم جاء احدهم وقال لي: لماذا انت واقف هنا؟ وقبل ان اجيب ارتفع أذان العشاء بصوت مهيب مجلجل، فوقفنا في خشوع وخضوع. فلما انتهى الأذان ذكرت اني لست على وضوء، فسال صديقي فوزي ياسين الذي كان معي في زياراتي كلها احد الحراس الميضأة، فذكر لنا ان الميضأة مغلق، فسقط في أيدينا، وغشينا من الغم ما غشينا، وخشينا اننا قد نحرم من الصلاة في الجامع الأزهر، كما حرمنا من الصلاة في مسجد الحسين، ولكن الله قيّض لنا رجلا من الامن عرف في وجهنا الياس والحزن، فاخبرنا صنبور ماء في مكان قريب خارج الجامع، فعرمنا على الذهاب، ووجدنا الصنبور في جدار سوق شعبي قريب من الجامع، فتوصانا على عجل وعدنا مسرعين. ولما وصلنا الجامع قبيل الإقامة، كان هناك قاري جالس، يقرا القران بصوت شجيّ عذب، يهزّ الفؤاد ويخشع القلوب، ويطمئن النفوس، ويزيل الهموم، ويفرّج الكروب. جلست في تؤدة ووقار وخشوع، اسمع تلاوة كتاب الله في هذا الجوّ الروحاني الطاهر، ورايت الناس حولي، وكأن في رؤوسهم الطير ، فلا احد يرفع رأسه، ولا ينبس بكلمة. ولحظت في وسط الجامع شاشة كبيرة، تسجل تلاوة القاري، ولا ادري ان كان هذا بثا مباشرا ام تسجيلا خاصا من إدارة الجامع. وبعد هنيهة توقف القاري عن تلاوة القران الكريم، فأقيمت لصلاة العشاء، ووقفنا في صفوف بين مسافات متباعدة، انقيادا لاجراءات الوقاية من الوباء، وكنا ثلاثة صفوف ونصف فقط، واظن ان الكورونا هو السبب في قلة الصفوف. ولما انتهينا من الصلاة جلست أستشعر عظمة هذه البقعة المباركة، وأتأمل أعمدته الكثيرة وزخارفه المنقوشة، ومحرابه وسجاده وأنواره المزينة، ولكن للاسف، فقد أطفأت اكثر الأنوار في الجامع بعد خمس دقايق او اقل من انقضاء الصلاة، ولم يتركوا لنا الا مصابيح معدودة، فد عتمت علينا الصورة، وطمست على اعيننا معالم الجامع، فحولت نوره ظلاما، وأنسه وحشة، ووقاره أشباحا، وجماله أطلالاً. وإطفاء الأنوار ترسل رسالة خفية معناها انه يرجى الخروج بأسرع ما يمكن. أسفت لذلك أشدّ الأسف، وليت شعري ما ذا يغني الأسف؟! والكورونا ناخ بجرانه على كل بقعة، نافذ أمره في كل جهة، فهو الامر، وهو الناهي، فهو الذي يصدر الأوامر، وغيره ينصاع اليه. كم حرّم علينا الكورونا من فرص ! وكم فرض علينا من القيود! وكم وضع في طريقنا من العراقيل! وهو في ذلك كله لا يبالي صراخ الشاكين، ولا أنين المعذبين، وانما يضرب ضربته، ويفرض شروطه، ثم يذهب في طريقه شامخا انفه، ثانيا عطفه، غير مصخ لنصح الناصح، ولا مصغ للوم اللائم. للجامع الأزهر تاريخ عريق يمتد الى اكثر من الف عام. وقد بناه الفاطميون في القرن الرابع الهجري في عام ٣٦١. ولم يكن الجامع يوما من الايام مكانا للعبادة فقط، منذ تاسيسه الى يوم الناس هذا، وانما كان منارة علمية سامقة، تنير للناس الطريق اذا ضلوا، وتهديهم سواء السبيل اذا انحرفوا عن الجادة، ومعبدا لذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، وقلعة للأبطال اذا حمي الوطيس، وأحيط ببيضة الاسلام. فمن معاهدها خرج العلماء، ومن محرابها خرج الزهاد والنساك، ومن ساحتها عقدت ألوية الجهاد للأبطال على أيدي العلماء، وعلى ابوابها تحطمت غطرسة الغزاة، وكيد المحتلين. وان كنت في ريب من ذلك، فاسأل نابليون وجنوده، حين ادخل خيوله الجامع، فدنّست ساحته الطاهرة، وعاثت في أنحاء المسجد فسادا، فقاد علماء الأزهر حملة الجهاد، فهل ترى لنابليون وجنوده وخيوله من باقية؟! ولقد أنشئت في مختلف مدن الحضارة الاسلامية مدارس علم كثيرة، وشيدت معاهد علم وفيرة، ثم عفى عليها الزمن، واندرست اثارها، الا الأزهر فانه لا يزال صرحا عاليا لنشر العلم، وحصنا منيعا لصدّ كيد الأعداء. انه الحصن الذي وقف طوال هذه القرون المديدة شامخا، يتحدّى الاندثار، ويقاوم الاندراس، ويبقى معلما راسخا، يرمز الى حضارة زاهية، ورسالة سامية، ودعوة قويمة. وددت لو انني وجدت فرصة اكبر للتجوال والتطواف، والوقوف على أنحاء هذا الجامع العتيق، والدخول الى أروقته، والاستماع الى الدروس التي يلقيها علماؤه، والجلوس الى حلقات العلم التي بحضرها طلاب العلم من كل أقطار العالم، ومن كل جنس ولون. ولكن أنى لي ذلك ! والوقت ليس وقت درس، وليست الساعة ساعة حلقة علم. ولقد أتى على الأزهر زمن لم يكن يقضى في ارض الكنانة أمرا دون أذنه او استشارته، ولا يلي حاكم الا بتصديقه، ولا يصدر امر هام من أمور الدولة الا بموافقته، ثم أتى عليه حين من الدهر، لا يسال عنه شيئا، ويقضى الامور غاب او حضر، قام او قعد، صاح او سكن، وافق ام لم يوافق. ان قوة الأزهر ليقظة امة، وقوة دولة، ونهضة مجتمع، ووضوح منهج، وان ضعفه لسبات امة، وخور عزيمة، وكبوة مجتمع، وغبش منهج، وعتمة طريق. مرّ الأزهر في تاريخه المديد بمراحل مختلفة من القوة والضعف، تبعا للظروف حوله، وأحوال أمته، ولكنه لم يمت أبداً، ولم يختف دوره عبر القرون، ولم يأفل نجم رسالته يوما، ولم تغب شمس دعوته ليلا او نهارا، وانما قد ينكمش احيانا ويضعف، ثم ينبعث من جديد اكثر قوة واشدّ نشاطاً، فيملأ الفضاء نورا، وينشر رسالته في ارجاء المعمورة. وإنني لأرجو ان يستعيد الأزهر دوره، ويسترد قوته كمؤسسية مدنية قوية، مستقلة بأمرها عن إرادة السلطات السياسية وأهواء الحكام، واقفة الى جانب الشعب وقضاياه المصيرية. فكلما كان الأزهر قريبا الى الشعب وآلامه وآماله، كانت الثقة به اكثر، وكلما استصغر نفسه واتبع هوى الحكام، فانه لا يجنى من وراء ذلك نفعا غير تقزيم دوره، والإفراط في تشويه رسالته. وذكرت وانا اجوب في رحاب هذا الجامع العريق رجالا وعلماء ومشايخ، درسوا في هذا الجامع، ونهلوا من معينه الصافي، وصاروا نوابغ يشار اليهم بالبنان. ذكرت الامام محمد عبده، والشيخ مصطفى عبدالرزاق، والشبخ محمود شلتوت، والشيخ عبدالحليم محمود، والشيخ مصطفى المراغي، والشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والشيخ عبدالرحمن الحبرتي، وغيرهم من الأيمة الافذاذ الذين وردوا هذا المنهل العذب، وشربوا من معينه حتى ارتووا، ثم أفاضوا على الناس ما فضل من زادهم وعلمهم، فانتفعوا به، ونفعوا الناس. ولا يزال في الازهر علماء عابدون، ييسشعرون عظمة المسئولية في عاتقهم، ويدركون اهمية الدور المنوط بهم وبمؤسسة الازهر كمنبر لنشر الثقافة الإسلامية الصحيحة السمحة في ارجاء المعمورة. مررت بساحة الجامع، وانا في طريقي الى الخروج، فتخيلت آلاف الحلقات العلمية التي عقدت في هذا الجامع العريق، ومئات الألوف من طلبة العلم الذين وردوا اليه ونهلوا من علومه، منذ أكثر من عشرة قرون خلت، والاعداد الهائلة من العلماء الذين تخرجوا في هذا الصرح العلمي، يحملون هذا الدين، ويبلغون رسالته الى الافاق. ولما خرجت نظرت نظرة وداع الى منارات الجامع ومآذنه التى تخترق الفضاء، وكأنها تستقبل وحي السماء ثم ترسله الى العلماء في ساحة الجامع وأروقته، حتى يبينوا للناس ما نزّل اليهم.

عبدالواحد عبدالله شافعي.

عبد الواحد عبد الله شافعي

كاتب صومالي من مواليد بلدوين ومقيم في بريطانيا. حصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بقضايا الفكر الاسلامي السياسي
زر الذهاب إلى الأعلى