أيام في القاهرة. (١)

ايّام في القاهرة. (١).

في الثاني والعشرين من شهر مايو الماضي، يممت وجهي شطر ارض الكنانة، بعد ان وضعت بريطانيا كينيا في قائمتها الحمراء، ضمن الدول التي يحجز مسافروها لمدة عشرة ايّام في فنادق مخصصة، للتأكد من خلوهم من وباء كورونا الذي بسط سلطانه على العالم، وبثّ الذعر والفوضى في حياة الناس، وكلما خفّت وطأته وضعفت قبضته، وظن الناس انهم في مأمن منه، يكرّ عليهم اكثر قوة، واشدّ باسا، فيخلّف وراءه ضحاياه، ويتنقل بين البلدان والقارات، كما يتنقل الغازي الجبار بين المدن. وكلما فتح مدينة عنوة، وأوسعها قتلا وخرابا، استعدّ لشن حرب إبادة أخرى على المدن بعدها، ويرتكب المجازر فيها، ويعيث في الارض فسادا، ويعيش العالم كله من جراء ذلك في هلع وفزع، وهرج ومرج، وفوضى واضطراب.

كنت مضطرا للذهاب الى مصر، وتحويل وجهتي اليها للإفلات من قبضة القائمة الحمراء، ولكنني وجدت في مصر الأنس والدفء والحياة والمتعة، وتذكرت قول الامام الغزالي-رحمه الله وبرّد مضجعه- ؛ (طلبنا العلم لغير الله فأبى العلم الا ان يكون لله) اننا ذهبنا الى مصر مكرهين غير مختارين، ولكن مصر أبت الا ان تكون واحة خصبة يتفيأ ظلها المسافرون، وروضة غناء يجدون فيها أصناف المتعة وأنواع اللذة المادية والمعنوية. ولما وصلت مصر كنت اشعر كما يشعر الولد العاق الذي هجر أمه، وعاش بعيدا عنها بعد ان ربته ورعته، فلا يزورها ولا يسال عنها، حتى طوّحت به طائح الزمن الى حضنها، فوجد فيه الدفء والحب والحنان، ولم تسأله لم هجرها؟ ولم غاب عنها كل هذه المدة؟ فهذا هو حب الام، حب دون مقابل، لا تحدّه حدود المصلحة الآنية، وانما هو حب خالص ابدي سرمدي خالد بخلود عاطفة الامومة، فاذا قطعتها وصلتك، لأنها لا تستطيع قطع بضعة من لحمها، واذا قسوت عليها عطفت عليك، فلا احد يقسو على نفسه، وان غبت عنها جزعت وفزعت، وكأن بعضا من أعضائها قد غاب عنها.

وكذلك كان شعوري وانا أتجول في شوارع القاهرة، فعلاقتي بمصر بدأت منذ مرحلة مبكرة من حياتي، حين التحقت في المرحلة الإعدادية بالمعهد الديني الأزهري في مدينة بلدوين في الصومال في بداية الثمانينات من القرن الماضي، وهو معهد تابع للأزهر، ويدرس فيه أساتذة مصريون من بعثة الأزهر الشريف، ودرسنا في هذا المعهد مصر وتاريخها وحضارتها واعلامها وأبطالها وجهادها وكفاحها وآلامها وآمالها ونهضتها ودورها الرياديّ في نهضة الامة من كبوتها. وعلى الرغم من انني غبت عنها اكثر من عشرين عاما، فإنني لم اشعر نفسي غريبا فيها، بل كنت احسّ ان ما يربطني بمصر اكبر من عاطفة عابرة، وانما هي علاقة روحية محفورة في الذاكرة. وكنت افرح كلما ارى شارعا او ميدانا او محلا او متحفا باسم احد الادباء او العلماء او الفنانين او الزعماء، مثل شارع عباس العقاد، ومتحف نجيب محفوظ قرب الجامع الأزهر، وشارع احمد لطفي السيد، وشارع احمد شوقي، وشارع متولي الشعراوي وشارع مصطفى النحاس، وكانت فرحتي اشدًّ حينما رايت إشارة في احد الطرق الى شارع عباس العقاد، فذهبت الى الشارع ليس حبا له، ولكن حب من يحمل اسمه ويرمز اليه، متمثلا بقول قيس مجنون ليلى:.
أمر على الديار ديار ليلى .. أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي .. ولكن حب من سكن الديار

فان عظمة كل امة تظهر في تعظيمها لعظمائها، وتخليدها اسماء مفكريها الكبار ورموزها العلمية والفكرية والوطنية. وهذا بعض ما لهولاءالعباقرة علىنا من الحقوق، لانهم افنوا عمرهم كله في خدمة اوطانهم. ولقد رايت الغرب يعظمون عباقرهم، ويقدّرونهم حق قدرهم، ويجعلون منازلهم متاحف وطنية يجمع ويحفظ فيها آثارهم. وبينا اسوق ذات يوم في احد شوارع لندن رايت جمعا غفيرا من الناس، يقطعون الشارع على نقطة عبور للمشاة، وياخذون الصور اثناء ذلك، فسالت عن الامر، فقيل لي: ان الفنان الفلاني كان يعبر الطريق الى بيته من هنا، فصار مكان عبوره مزارا لمحبيه، يزورونه وينفرون اليه خفافا وثقالا. ولما رايت ذلك ذكرت ما يعرض لآثار عظمائنا من الاهمال، وما يلحق باسمائهم من النسيان بل من التشويه في أوقات كثيرة.

رايت القاهرة مدينة عامرة، متطورة، مكتظة، ومضطربة بالحياة والأحياء، وكان الجو فيها حارا، الا انه يعتدل قليلا في المساء، ويخرج الناس في الليل الى الشوارع، ويرتادون المقاهي ومحلات العصائر، جالسين على كراسي مصفوفة خارج المحلات، يتنسمون الهواء المنعش، ويحتسون الشاي او يرتشفون القهوة، او يشربون عصير الليمون والمانجو، او ياكلون ما لذّ لهم من أطايب الطعام، ويتبادلون بينهم ما طاب وأمتع من حسن الاحاديث فيي جو من المرح والمتعة. وان القاهرة في لياليها غيرها في نهارها، فانها لتبدي زينتها في الظلام، وتظهر للعين كأنها عروس مجلوة ليلة زفافها في أبهى حللها، وأجمل جواهرها، وأزهى ثيابها، وأروع دررها، وتتلألأ المدينة بأنوارها الزاهية، وتزين المصابيح مبانيها ومحلاتها، كما تتزين السماء بزينة كواكبها الدرية، ونجومها الزاهرة. فاذا طلع الفجر، وغارت النجوم، وغابت المصابيح، اختفت مظاهر الحياة الوادعة الهازلة، وظهرت حياة الجد والكدّ، وخلعت القاهرة الحلل الفاخرة، ولبست لباس العمل والكدح.
أما الخيام فإنها كخيامهم * وأرى نساء الحي غير نسائها

ولقد لفت نظري شوارع مدينة القاهرة، وطرقها الفسيحة، وكباريها الواسعة الكثيرة التي ساعدت في تخفيف زحمة السيارات من الطرق الرئيسية، خاصة في مدينة نصر التي نزلت بها، ولكنني لم أر في معظم هذه الطرق إشارات المرور التى تنظم حركة السيارات والناس، فيضطر المارة الى استعمال أيديهم وعيونهم للتفاهم مع سائقي السيارات، وكثيرا ما يقتحمون الطريق غير مبالين للخطر المحدق بهم، ويضعون حياتهم رهينة في تقدير السائق او حالة مزاجه النفسية والعصبية، ولكن الناس اعتادوا على هذا الخطر، فيتقاسمون الطرق مع السيارات، معتمدين على ضوابط عرفية غير ملزمة اصطلحوا عليها للتفاهم.

وقد أخذتني الحيرة في بداية الامر، وكنت اقف على جانب الطريق ولا أبرح مكاني منتظرا حتى يخلو الطريق من السيارات او تهدا حركته، ولكن الطريق في القاهرة لا يخلو، والحركة لا تهدا، فاضطر في النهاية الى الاختيار بين إلقاء نفسي الى التهلكة او البقاء واقفا هناك سحابة نهاري كله. وتلك مشكلة من لا يفكر في الانسان عند تخطيط اي مشروع، فما الجدوى من انشاء طرق او إقامة كباري ان لم تفكر في سلامة الانسان الذي يستخدمها؟ وقد قلت مرة لسائق سيارة اجرة مصري ما اروع طرق القاهرة وما احسن كباريها! فقال لي: اهم من ذلك بناء الانسان الذي يبني الكباري والطرق، فقلت في نفسي. سائق مثقف اضطرته الظروف الى هذا العمل، ثم قلت: وما يدريك لعله يستدرجك الى حديث لا يحمد عقباه فآثرت السلامة وسكت. وهذه طبيعة المجتمعات التي لا تتمتع بالحرية، يسود الخوف والشك في علاقاتها الاجتماعية، وتشيع ثقافة المؤامرة والغدر في علاقاتها الإنساني.

عبد الواحد عبد الله شافعي

كاتب صومالي من مواليد بلدوين ومقيم في بريطانيا. حصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بقضايا الفكر الاسلامي السياسي
زر الذهاب إلى الأعلى