خواطر دعوية ( ١٥) : الاقتداء بالأحياء والأموات من الصالحين

خواطر دعوية ( ١٥) : الاقتداء بالأحياء والأموات من الصالحين :

الكلمات الجميلة والمواعظ الجذابة الممزوجة بآيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة وأخبار وسير العبّاد والصالحين التي تأخذ الوجدان وتأسر القلوب وتحرك المشاعر يبقي أثرها محدودا ما لم يقترنها بعمل ولم يصاحبها بامتثال من صاحبها ، لأن الأفعال أشدّ وقعا وأطول صوتا وأكثر تأثيرا من الكلمات ، ولأجل أهمية العمل وقوة تأثيره ، يراقب الناس أعمال المرأ أكثر من مراقبة كلامه ، فإذا وُجد تطابق فيما بينهما كانت الاستجابة أكثر والاقتداء أعظم ، وأما إذا حصل العكس ، فلا قيمة لكلمات لم تغير من حال قائلها شيئا ولم تصلح له شأنا وخلقا.

ولأهمية القدوة أمر الله تعالى نبيه ومصطفاه (ص) الاقتداء بالأنبياء والمرسلين من قبله فقال تعالى ﴿أُولئِكَ الَّذينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقتَدِه﴾ الأنعام٩٠

كما أمر المؤمنين الاقتداء بنبينا محمد (ص) فقال تعالى ﴿لَقَد كانَ لَكُم في رَسولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرجُو اللَّهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيرًا﴾ الأحزاب ٢١ ، والآيات في هذا الباب كثيرة .

ومن أجلِّ وأعظم الأحاديث الواردة في القدوة هو حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابت قائلة ” كان خلقه القرءان “.

إذا الاقتداء بالنبي (ص) في حال حياته وبعد موته واجبة على جميع المؤمنين حسب قدرتهم واستطاعتهم .

وأما بعد الرسول (ص ) فتأتي الصحابة الكرام بالمرتبة التالية في القدوة واتباع  آثارهم ، وفي الحديث : ( اقتدوا باللَّذين من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمّار ، وتمسّكوا بعهد ابن مسعود ) رواه الترمذي وصححه الألباني . 

لأن الله عز وجلّ زكاهم وطهرهم ورضي عنهم ، فأقوالهم وأعمالهم موزونة بميزان الشرع ، لأنهم شاهدوا التنزيل وعاصروا التأويل وعرفوا من حياة الرسول (ص) ما لم يعرفه أحد من بعدهم ، فهم أمناء لأمته بعد موته ، فبقوا على العهد والميثاق إلى آخر رمق من حياتهم ، ولأجل ذلك قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قولته المشهورة : ” من كان منكم مستنا فلستن بمن قد مات ، فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد ، أبرُّ هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما ،وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لإقامة دينه ، وصحبة نبيه ، لتعرفوا لهم حقهم ، وتمسكوا بهديهم ، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم ) .

وقد روي أيضا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : (من كان مستناً فليستن بمن قد مات ، أولئك أصحاب محمد ( ص)، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبا ، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه (ص) ونقل دينه ، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم ، فهم أصحاب محمد (ص) كانوا على الهدى المستقيم، والله رب الكعبة) حلية الأولياء .

الاقتداء بالصحابة الكرام أمر متفق عليه بين أهل العلم والديانة ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب العقيدة الأصفهانية: ) ولا تجد إماماً في العلم والدين ، كمالك والأوزاعي ، والثوري ، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومثل: الفضيل وأبي سليمان، ومعروف الكرخي ، وأمثالهم، إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة ، وأفضل عملهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة ، وهم يرون الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب ).العقيدة الأصفهانية.

وأما الاقتداء بالعلماء والصالحين ممن لا زالوا على قيد الحياة ، فيعتقد كثير من الناس  أن القدوة الصحيحة النافعة والأسوة المثمرة  لا تتحقق إلا بالاقتداء بمن مات من العلماء والأخيار ، وأنه ينبغي عدم الارتهان والاغترار بالأحياء من الصالحين مهما بلغوا في العلم والعبادة ، معللين بذلك بأن الأحياء لا يؤمن عليهم بالفتنة ، وقد تصيبهم النكسة ويلحق بهم الخور ، أو يلتبس عليهم الحق أو قد يضلون وهم لا يدرون ، أو ينحرفون عن الجادة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، مستدلين بمقولة عبدالله بن مسعود الذي يقول فيها  : ” ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإن كنتم لا بد مقتدين فبالميت فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة ” رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله رجال الصحيح .

قلت وإن كان كلام الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه له وجاهة ونصيب من الحقيقة إلا إنه لا يمكن إطلاقه وتعميمه من دون تمحيص وتدقيق ، صحيح أن الأموات من الأنبياء والمرسلين والصالحين والعباد والأخيار الذين شهد بهم التنزيل في صلاحهم واستقامتهم أو تناقلت الأمة  على سيرهم المحمودة لهم الكعب المعلى في سير خطاهم واقتفاء آثارهم واظهار أعمالهم الصالحة بين الأنام ليحسن الاقتداء بهم ، ولكن من الصعوبة بمكان  أن يتعرف أخبار وسير الصالحين إلا من كان من أهل العلم أو كان ممن يحسن الكاتبة والقراءة ، وأما غالبية الناس رجالا كانوا أم نساء فلا تتوفر لهم أهلية لذاك ، فمن المستحيل أن تحصل لهم قدوة حسنة لمن لا يعرفون حاله عن قرب ، ولذلك يصبح هذا الشرط ( الوفاة ) للمقتدي به شرطا تعجيزيا لا يتوافق مع روح الشريعة ومقاصدها المبنية على التيسير والتسهيل .

فالعامة تعيش على الفطرة الصحيحة تحب الخير وأهله ، وتكره الشر وأهله ، فتتأثر وتنقاد لما يقوم به الرجل الصالح من أعمال صالحة وتقتدي به من دون أن تسأله الدليل ، وكذلك تكره بما يقول ويفعل أهل الباطل ولو كانوا  يحملون علما شرعيا . فهناك الملايين من البشر يقومون بأعمال صالحة ، وتظهر آثارهم الطيبة بين الناس ، فمنهم عالم يعلم الناس الخير ، وقاري ومرتل  للقراءن الكريم ، ومتصدق جواد ، وآمر بالمعروف وناه عن المنكر ، وساع للاصطلاح ، وقائم على الأيتام والأرامل والمحتاجين،  وغيرهم ممن يفيدون المجتمع بأقوالهم وأفعالهم ،  فاذا قيل لا يجوز الاقتداء بهؤلاء لأنه لا يعرف بما يختم لهم من أعمال صالحات أو سيئات  فإن ذلك سيحرم من عوام المسلمين خيرا كثيرا ، ثم إنه مخالف لما ثبت في ديننا الحنيف بأن الأحكام في الدنيا تنحصر في الظاهر ولا تحكم بما في الباطن لأن علم ذلك موكول إلى المولى جل في علاه،  فمن أحسن ظاهره وأجمل فعاله  واستسلم لأحكام الشرع ولم تظهر منه مخالفة أبطلها الشارع ولو أخفاها عن النظر  فللناس أن يقتدوا به ولو لم يعلموا بماذا سيختم له ، وأما من أظهر الشر ونابذ الشرع وعاند فلا كرامة له وإن ادعي صلاح السريرة وصفاء القلب .

وأخيرا الاقتداء بالأحياء من الصالحين أمر مهم جدا ، وأنه لا مناص منه ولا حيدة عنه ما داموا على الحق متمسكين وسبيل الخير سالكين و أحكام الشرع معظمين و السنة النبوية متبعين وطريق الصالحين مستمرين .

جعلني الله تعالى وإياكم من عباده الصالحين.

د.عبدالباسط شيخ إبراهيم

١٠/٧/١٤٢ه

٢٢/٢/٢٠٢١م

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى