الفكر السياسي عند السيد محمد عبدالله حسن (الحلقة الثالثة)

من دعوة دينية الى حركة سياسية عسكرية

بعد ما يقارب سنتين من الدعوة الى الإصلاح الاجتماعي والديني ومناهضة الاستعمار قضاها في بربرة، أدرك السيد محمد عبد الله حسن صعوبة إظهار دعوته فيها، وأنه لا بد لهذه الدعوة من عصبية تحميه والى ركن شديد تأوي اليه، وقرر الرحيل الى البادية ووَضْع استراتيجية جديدة تمكنه من انتشار حركته في كل ارجاء البلاد والتمركز في المواقع المفصلية والاستراتيجية والعمل في وسط القبائل، وتحويل حركته من حركة دعوية الى حركة سياسية وعسكرية من خلال استراتيجية التمكين. وعلي بعد تسع وعشرين ميلا شمال قرية عينبة في مكان يسمي قور ويني وعند بئر ماء، اتخذ السيد محمد عبد الله حسن اولي مقراته ومن هناك رسميا وضع اولي لبنات حركته التي ما زالت في طابعها الدعوي وسمى بالدراويش أو الإخوان، وبدء يدعوا قبائل البدو الى الطريقة الصالحية، واستطاع تخطي حاجز القبيلة وتأسيس جماعة ليست على أساس قبلية بل على أساس الإخوة الإسلامية. وفي غضون سنتبن أنشأ حركة عسكرية ذات قاعدة شعبية متينة، وقد استجابت قبائل عدة لدعوته، وكانت بداية التمكين، ومما ساعده في إنجاح استراتيجية التمكين مكانته الدينية، والالتحام الاجتماعي والروحي للقبائل حوله، وتمكّنه من إصلاح بين القبائل المتحاربة وحل خلافاتهم وارجاع الأموال المنهوبة فيما بينهم. ومثلت هذه العوامل نقطة انطلاق قوية للعمليات والمواجهات المسلحة مع المستعمر البريطاني والحبشة واعوانهما من القبائل الصومالية، هذه المرحلة غلب عليها طابع الشدة والمفاصلة، وظهرت فيها شخصية السيد القيادية، العسكرية منها والدينية، واستطاع تكوين جماعة دينية عسكرية قوية من المحاربين الأشداء ومن طلاب العلم الذين جاءوا من مختلف مناطق شمال وغرب الصومال، وأن الإجماع الديني ضاعف قوة العصبية بالاستبصار والاستماتة. وأعلن الجهاد ضد بريطانيا والحبشة، واقتصر نضال الحركة في مراحله الأولى في الإطار العسكري والدعوي فقط،، وشهدت في هذه الفترة نموا وازديادا مطردا، حيث اكتسبت من خلال الدعوة والحرب العصابات الخاطفة عددا من الأتباع الخُلَّص الذين لا يهابون تحدى ومواجهة عدوا يتفوق عليهم عدة وعددا ويمتلك أسلحة نارية أضعاف ما يمتلكون. بدئها بقتال القبائل الممتنعة عن الانضمام الى حركته والموالية للمستعمر.
لقد اندهش الجميع لفُجائية هذه الحركة والقفزة الكبيرة التي حققتها في ظرف زمني وجيز. وهذا امر طبيعي لأن الظروف والسياق العام التي نشأت فيه الحركة أجبرت السيد اللجوء الى اهل البادية الذين هم ما زالوا على الفطرة السليمة ولم تتلوث أفكارهم بثقافة الغرب وتأثيرها ولذا لم يجد السيد صعوبة في إقناعهم بقبول أفكاره، على عكس أهل الحضر واصحاب الجاه والمناصب والعلماء، الذين لهم مصالح اقتصادية وسياسية تتقاطع مع مصالح المستعمر، ويرون حركة السيد تهديدا وضررا على مصالحهم ووظائفهم، وكذلك عامة الناس في المدن، يقول ابن خلدون أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم وهكذا كان حال الأنبياء عليهم السلام في دعوتهم الي الله بالعشائر والأعصاب وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه إنما أجرى الامور على مستقر العادة ، ويقول أيضا ان أهل البدو أقرب الي الخير من اهل الحضر وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر واهل البدو اقرب الي الشجاعة من أهل الحضر والسبب في ذلك أن اهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة وانغمسوا في النعيم والترف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن اموالهم وأنفسهم الي واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم[1]….الخ. وهنا تتجلي عبقرية السيد وفهمه للناس والقبائل واختياره العصبية الانسب لدعوته لمكانتها الاجتماعية وموقعها الجغرافية حيث تتوسط جميع القبائل القاطنين في الشمال الغربي والشرق، ولها أيضا حدود واتصال مع قبيلة اوغادين بنو اعمامه، اختياره قبيلة طل بهنتي لم يكن من قبيل الصدفة أو لأنها اخواله، بل كانت علي دراية وفهم للقبائل الصومالية، وطبيعة المنطقة الجغرافية، وتنطوي علي قدر كبير من الحكمة والتفكير وحسن الاختيار، يقول د. سعيد سمتر : تمثل قبيلة طول مهانتي في المجتمع الرعوي الصومالي الأفضل والأسوأ مع قطعانهم الكبيرة، وسلوكهم الارستقراطي المتغطرس، ويثيرون حسد جيرانهم الصوماليين، وتحدها قبيلة مجيرتينيا من الشرق، وقبيلتا إسحاق وورسنغلي من الشمال الشرقي، وقبيلة اوغادين وهبر يونس من قبيلة اسحاق من الغرب، وقد شكلت القبائل المحيطة بهم التي كانت معها حروب ونزاعات منتظمة عازلا عن التأثيرات الخارجية حتي الخمسينيات من القرن العشرين، موطن قبيلة طل بهنتي هو قمة الأراضي الرعوية وغني بالماء والكلأ، ويوفر واد نغال أيضا ملاذا جيدا من الثنائي العدائي الابدي للرعاة الصوماليين، الجوع والعطش[2] .
بعد اكتمال بناء قاعدته في ارض طل بهنتي، وقطع مرحلة التكوين والتنظيم وأصبح معه رجال يعتمد عليهم في تبليغ دعوته والدفاع عنها، وعقد تحالفات مع بعض العشائر القريبة من قبيلة طل بهنتي، وامّن طرق امداد السلاح والذخيرة، والتجارة، واسس ما يمكن تسميتها إمارة كما صرح بذلك هو نفسه في رسالة ارسلها الي نائب القنصل البريطاني يقول فيها: نحن حكومة ولدينا سلطان وأمير وزعماء قبيلة ورعية، كأنه يقول كما أن لكم حكومة، وملكة وأمير ورعية، ونحن كذلك، بدء السيد يدعوا ويستميل القبائل الموالين لبريطانيا وتحت حمايتها الي الانضمام اليه وترك موالاة المستعمر، وأرسل إليهم رسائل وقد جاء في بعض رسائله التي ارسلها الى قبيلة عِيدَغَلي ما نصه: ان الكافرين اعتدوا عليكم وعلى أرضكم ليفسدوكم ويفسدوا دينكم ويجبروكم لاعتناق دينهم بقوة حكومتهم، وسلاحهم وعددهم، لكن ايمانكم وشرفكم هما سلاحكم وكفي، لا تهربوا من عسكرهم ولا قوة سلاحهم، الله أقوى منهم[3].
بريطانيا كانت تراقب تحركات السيد وتقلل من شأنه، رغم إدراكها خطورة افكار السيد السياسية، وتنظر الى السيد كزعيم روحي، واعتقدت أن وجهته وغايته هي الحبشة، واستحسنت ببعض أعماله الإصلاحية[4]، لكن عند ما علمت نوايا السيد الحقيقية بدأت تأخذ تدابير استباقية ضده قبل أن تقوي شوكته، ويصعب ايقافه، طلبت من الحبشة التعاون في شأن السيد كونها العدوة اللدود والتاريخي للصوماليين والتي لها جذور وابعاد دينية، ومستعمرة لجزء كبيرة من اراضيهم، ويجدر الإشارة إلى أن الحبشة قد احتلت مدينة هرر الإسلامية بعد انتصارها على الإيطاليين في وقعة عَدْوَو في إريتريا ١٨٩٦ وشاركت مع القوي الأوروبية في تقاسم الصومال وكان القسم الغربي (اوغادينيا) من نصيبها علما بأن هناك مشاكل حدودية (الأراضي الصومالية التي اغتصبتها القوي الثلاثة بريطانيا، إيطاليا والحبشة ) والتي لم ترسم بشكل واضح ونهائي، ولذلك لم تتحمس الحبشة لهذا الطلب وتلكأت لتلبيته حيث ابطأت إرسال حملة عسكرية للمهاجمة السيد في اوغادينيا. بعد استيلائها علي هرر قاعد المسلمين في الحبشة بدأت تأخذ شيئا فشيئا أراضي الصوماليين وتنهب أموالهم ومواشيهم، عند ما علم السيد خطة بريطانيا وما تدبر له، من جانبه اخذ خطوات استباقية حيث أرسل الى الحبشة سرية سريعة تمكت نصب كميين لجيش الحبشة القادم من هرر ودحره وأخذ غنائم كبيرة من السلاح والذخيرة واسترداد ما نهبوه من المواشي، هذه الحادثة كان لها وقعها واثرها الايجابي على الصوماليين وزادت شعبية السيد وحركته في اوساط الصوماليين، من هنا تأتي فكرة وطنية وقومية السيد والتي لا أثر لها في فكر السيد، “وهنا يجب أن نشير الي ان الحرب سبع وسبعين وتسعمائة وألف ميلادي، بين الصومال والحبشة كان السيد الحاضر الغائب، في هذه الفترة انتجت اكثر الأعمال التي تخلد نضاله، حيث نصب له تمثال في وسط العاصمة وعمل له فليم سينمائي والفت اكثر الكتب التي تتحدث عن سيرة السيد محمد عبدالله حسن”. لم يحارب السيد الحبشة لأنها تعتدي علي الصوماليين وأرضهم، بل لأنها تعتدي علي الصوماليين المسلمين وأرض المسلمين، وهذا واضح ويمكن ملاحظته في خطاباته ورسائله الي الصوماليين الذين رضوا ان يكونوا مع الحبشة او تحت حماية الحبشة، وهناك من يري أن هدف الأول لسيد محمد عبدالله حسن في البداية كانت الحبشة، مثل د. سعيد سمتر حيث يقول: المرحلة الاولي لصعود الحركة، يبدو كما يتضح في أنشطة الحركة أنها كانت موجهة نحو الحبشة، وراءه الناس بطلا في استقلاليته السياسية والدينية لوطنه مدافعا من جميع الغزاة المسيحيين[5] . انتهي.
مع انطلاقة أعمال السيد العسكرية ضد بريطانيا وأعوانهم من الصوماليين، بدأت تظهر أمارات التصدع في الجبهة الداخلية، ونشوء فجوة كبيرة بين زعماء ووجهاء العشائر وبين السيد، وغدت زعماء العشائر في هامش الحياة السياسية عوضا عن مشاركتهم في صناعة الواقع الجديد بصورة حقيقية، ومن إشكالات الحركة غلبة عقلية القبضة الامنية، والغلظة في داخل الحركة بغرض تأمين الأوضاع الداخلية، وكذلك اصفاء على شخصية السيد نوع من القداسة حتى أصبح ضرب ابن السيد خروجا عن الدين، وبروز النزعة القبلية للقادة في داخل الحركة، التي اثرت سلبا على توازن الحركة في معادلة القبائل التي تمثل دعائم الحركة مما عضد الاتهام لعشيرتي السيد من جهة الأم ومن جهة الأب ولأسرة السيد بالذات، بسيطرة مفاصل وقرات الحركة على حساب العشائر الأخرى التي تشكل المكون الرئيسي للحركة، مما تسبب اندلاع خلافات بين السيد وسلطان أو(غراد) أرض نغال من عشيرة فارح غراد من قبيلة طل بهنتي غراد على محمود، والتي أدت بمقتل الأخير، ويرجع هذا الخلاف الي مخاوف غراد على، علي فقدان الزعامة السياسية للقبيلة، وامتناعه عن الاعتراف بزعامة السيد السياسية، وراي أن السيد تخلي عن واجباته الدينية لتحقيق مكاسب سياسية على حسابه، واستطاع السيد تهدئة مخاوف الغراد وقد توصلا الرجلان ولبعض الوقت الى صلح ووحدة غير سهلة. لكن سرعان ما انقلب الأمر رأسا على عقب وذلك على خلفية رفض غراد على مشاركة حملة ضد قبائل إسحاق، وقال قولته المشهورة: “والله لا يمكن أن يكون لأرض نغال أميرين، وتواصل مع البريطانيين وطلب منهم الحماية، وكذلك تواصل مع سلطان مجيرتينيا وقال له: جاء الى هذه الأرض وداد(شيخ) من قبيلة اوغادين واتي بطريقة غير معروفة واتبعه الناس، أرسل اليّ رجالا وسلاحا لأقاتله”. لم يتوانى السيد على تصفيته بدعوي ارتداده عن الإسلام. تسبب مقتل غراد على محمود حدوث فتنة كادت أن تؤدي الى حرب أهلية داخل قبيلة طل بهنتي. هذا التصدع لم يكن إلا بداية لتصدعات أخرى متلاحقة لم يستطع السيد ردمها طيلة حياة حركته وكانت من اهم الأسباب التي حالت دون التفاف والتحام معظم القبائل حوله وانضمامهم الى الحركة.
لاحتواء الموقف وتفاديا مزيد من التصدع نقل السيد مقره الى أرض اوغادينيا بين أبناء عمومته. لكن أثار الفتنة لم تزل تتردد صداها بين القبائل حتى في أرض اوغادينا حيث من المفترض ان تكون في مأمن من آثار فتنة مقتل غراد على، بالفعل حدثت حادث مماثلة لمقتل غراد على. قبل مجيء السيد الى اوغادينيا كانت المنطقة تتعرض لغارات الحبشة، من نهب وسلب أموالهم ومواشيهم، واستطاع السيد لوضع حد للاعتداءات الحبشة واسترجاع الأموال التي نهبوها، واكتسب بذاك شعبية وتأييدا بينهم وأعتبروه منقذا، وتعاظم شأنه حيث راي بعض الزعماء خطرا علي زعامتهم السياسية، خاصة عشيرة محمد زبير، رغم تزويج السيد اخته من عبد وال من وجهاء محمد زبير وتعيينه من الخصوص (مجلس الشورى) لتأليفهم. لم تمر فترة طويلا حتى ظهر للعلن معارضين لسيد بين الاوغادنيين خاصة عشيرة محمد زبير بقيادة حسين حرسي دلل(إلجيح) وازدادت حدتها إثر مقتل شيدي طبر جليع من وجهاء محمد زبير بشكل فظيع وما اعقبها من محاولة اغتيال استهدفت شخصية السيد، وانقلاب فاشلة، استطاع السيد احتواءه وتقليل تأثيره على تماسك ووحدة الحركة، وخرج منها منتصرا مما عزز مكانته السياسية. وقد اورد الشيخ اوجامع عيسى تفاصيل الحادثة في كتابه تاريخ الدراويش والسيد محمد عبد الله حسن صفحة من ٣١-٣٦.
ليست هذه المحاولة الانقلابية الوحيدة التي يتعرض لها السيد محمد عبد الله حسن، وفي قترة لاحقة تعرض أخطر محاولة انقلاب واغتيال، هذه المرة كانت من داخل قيادات الحركة. أواخر ١٩٠٨عصفت رياح عاتية في معسكر الدراويش كادت أن تقتلع من جذورها وتزيلها من الوجود، وذلك إثر رسالة من الشيخ محمد صالح رشيد شيخ الطريقة الصالحية في مكة المكرمة التي يتهم فيها السيد الانحراف عن جادة الطريق واستحلال دماء المسلمين واموالهم واعراضهم بغير وجه حق، ويقال ان الشيخ محمد صالح رشيد فصله عن الطريقة، وتركت الرسالة أثرا سلبيا، وخلقت فتنة وزعزعة في داخل صفوف الدراويش ومن أقرب المقربين للسيد وهزت أركان دولة الدراويش، وحصلت محاولة انقلاب، المعروفة بشجرة عنجيل. هذه الحوادث الداخلية قد أضرت الحركة وزعيمها، وانفض كثر من الناس والقبائل من حول الحركة وزعيمها جماعات وفرادى، وخلقت فوضي وعدم الثقة في داخل الحركة، وسهل اختراقها، مما ضرب وحدة الحركة وساهم في ظهور كثير من الانشقاقات، وقد علق الشيخ اوجامع عيسى في كتابه تاريخ السيد والدراويش صفحة ٢٠٨-٢١٠ على هذه الحوادث وذكر نتائجها وحصيلتها وأثرها السلبية في دخل الحركة.
يتبع…..

________________________________________
[1] مقدمة ابن خلدون ص ١٢٦، وص ٩٩ دار الكتب العربية بيروت الطبعة الأولى ٢٠٠٩
[2] Oral poetry and Somali Nationalisme the case of mahamed abdille hasan dr s. Samazxr p 101
[3] المدر السابق ص ١١٦
[4] Oral poetry and Somali Nationalisme the case of mahamed abdille hasan p 114
[5] Oral poetry and Somali Nationalisme the case of Sayid afirca studies series 32 p 107_ 117 dr s. Samatar
Cambridge universaty press

خالد إبراهيم

باحث في تاريخ الصومال
زر الذهاب إلى الأعلى