قراءة في كتاب مذكرات قارئ (٥)

نتناول اليوم الفصل الخامس، وهو الأخير من كتاب (مذكرات قاري) للدكتور محمد الاحمري، وكنت قد كتبت الفصول الأربع الأولى من هذا الكتاب متتابعات قبل شهرين، ثم فتر النشاط، وخبت الفكر، وخمد الذهن،  وانشغلت في متاهات أخرى جذبتني بعيدا عما كنت قد نويته، حتى جاء رمضان بأجوائه الروحانية، فبعث فينا النشاط من جديد، واستثار الفكر من رقاده، ونفخ فينا روحا قوية لتجديد ما رثّ من حبال العزيمة. وهذا الفصل بعنوان (بيت في مدينة الادب) عرض فيه المؤلف لقضايا متعددة ومتنوعة، تفيد الكاتب والقارئ، ومنها تبتّل العلماء وكرمهم، ومحاورات الكتّاب والمشائين منهم الذين يحبون المشي اثناء الحوار، وقضايا الغرب وافكارهم، واللغة الثانية، والفلسفة والشعر والأدب، والترجمة، وغير ذلك من القضايا التي وقف عليها الكاتب، وناقشها مناقشة خبير سبر أغوارها، ثم يتحفنا بثمار قراءاته حول تلك الموضوعات، ويعرض وجهة نظره يتواضع العلماء دو ان يشعرك الرغبة في فرض رأيه على القاري، وانما يكتب تجربته ويسجل موقفه تاركا لك فرصة التأمل والاختيار والاقتناع.
وعنوان هذا الفصل ( بيت في مدينة الادب) إشارة الى قول الاديب السوداني الكبير الطيب صالح حين سأله احدهم: لماذا لم يكتب كتابا اخر مثل كتابه “موسم الهجرة الى الشمال”؟ فأجاب الطيب: “فقد كنت حريصا على ان يكون لي بيت في مدينة الادب، وهذا بيتي في هذه المدينة، وقد يكون بيتك في مدينة الادب بيتا صغيرا جدا، ولكنه من الألماس، فلا عيب ان يكون لك في عمرك عمل واحد فقط، ولكنه عمل متميز” مذكرات قارئ، ٣٥٤). وهنا يشير الكاتب الى أن عملا يتيما متميزا مثل (المقدمة) لابن خلدون قد يجد القبول والشهرة ويضمن الخلود لصاحبه، بينما لا تجد أعمالاً لمؤلفين مكثرين مثل هذا القبول والخلود. وهنا تأتي جدلية مسالة الكم والكيف في الحكم على المصنفات، ولكن ينبغي ان لا يكون هذا الامر مثبّطا للمؤلفين، ويحسن لمن لديه القدرة، ويجد في نفسه التهيؤ والاستعداد ان يترك للأجيال بعده اثرا خالدا يدل على مروره بهذه الدنيا، حتى يقال (مرّ وهذا الأثر !)
ويرى المؤلف ان معظم العلماء والأدباء والمفكرين الكبار في الإسلام وفي الغرب كانت دراساتهم الأولى دينية، وتكونت في سواري المساجد وأعمدة الكنائس. “تتبعت الكثير من النبغة في بلاد الإسلام وفي بلاد الغرب، فوجدت معظمهم قد بدأوا تعاليمهم بدايات دينية في المساجد او الكنائس أو معابد اليهود، وان الدّين سطر الأسطر الأولى في حياتهم، تعلموا اللغة القوية من معدن كتب الأديان الكبرى، وتعلموا أصول البحث والمناظرة والجدل من هناك. اما عندنا في الثقافة الإسلامية القديمة والحديثة فتجد القران والمساجد ودروس العقيدة والنحو والشعر والبلاغة رسمت خطوط المعرفة في نفس الطالب، فمفكرو العربية وأدباؤها من أمثال سيد قطب، واحمد امين، وطه حسين، وعبدالله الطيب، والعقاد، وتوفيق الحكيم، ونحيب محفوظ، والشعراوي، ومحمود شاكر، وعلي الوردي، وفلاسفة العالم الكبار والملحدون منهم ايضا تجد دراساتهم الاولى دينية” ( مذكرات قارئ، ٣٦٠).
فهذا نص فريد، ونظرة عميقة من الكاتب. ولا يخفى على المتأمل الأثر القوي للدراسات الدينية الاولى في التكوين النفسي والعلمي واللغوي للإنسان، فهي بمثابة الارض الصلبة التي يقف عليها، وتجعل قدمه راسخة ثابتة لا تتزعزع، ويجد فيها التهيئة والإعداد اللازمين لرحلة العلم الشاقة في مقتبل الايام، لما في هذه الدراسات الدينية من تقوية ذاكرة الطالب، وشحذ فهمه،  وصبره على التدقيق في المسائل العويصة، وتعوده على الحفظ، والإثراء في معجمه اللغوي. وقد راينا كثيرا من المتفوقين في دراساتهم الأكاديمية من خريجي الجامعات الحديثة، انهم كانوا ممن تربوا في رحاب المساجد، ونهلوا من علومها؛ فكانت لهم تلك العلوم بمثابة أجادب أمسكت الماء، وأخرجت من كل زوج بهيج، فانتفعوا بعلمهم ونفعوا الناس. وكل من كانت له تجربة سابقة في حلقات المساجد في ايّام حياته الاولى يدرك حقيقة هذا الامر. ولو لا تلك البذور الاولى من علوم اللغة والأدب والفقه التى غرستها دروس المساجد في عقولهم، لصارت رؤوسهم قيعانا لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ.
وتطرق الكاتب الى قضية لجوء بعض الادباء الى الجنس في أعمالهم الأدبية بقصد الإثارة والتشويق، ويرى ان في ذلك دليلا على إفلاسهم وضعف خيالهم وفساد ذوقهم: “ولو تأملت عددا من الاعمال العظمى في الادب، لما وجدت الجنس سائقا لها، بل ولا محطة فيها، والأعمال الأدبية الكبرى في تاريخ البشرية لا تدين للجنس بالبقاء ولا التفوق” ( مذكرات قاري، ٣٨٣). وما قاله الكاتب هنا صحيح لا غبار عليه، وينبغي ان يكون للأدب رسالة سامية تحمل قيما إنسانية عالية. ومهمة الاديب ان ينشر تلك القيم بين الناس، وان يبدّد الصورة السلبية النمطية في اذهان بعضهم التي لا تتصور الادب الا اداة للتسلية واللهو وتزجية الفراغ. ولكنني رايت بعضهم يبالغ في هذا الامر اي في التشديد على تناول ما يتعلق بموضوع الجنس، حتى انهم ليحظرون على الاديب ان يقترب من المناطق المحظورة في عالم المراة وصفا وتصويرا واغراء. والأديب الحق هو الذي يستطيع ان يدخل في هذه المناطق المحظورة، ويصف العواطف والمشاعر، ويصور مشاهد الاغراء والفتنة تصويرا أدبياً دون ان يسف او يشف. والقران نفسه عرض لهذا الموضوع في سورة يوسف، ووصف الجمال والدلال، وصور مواضع الفتنة والأغراء. وفي النهاية، فان الاديب يصور الحياة الواقعية التي يعيشها الناس في حياتهم الطبيعية، ويصف عواطغهم ومشاعرهم كبشر من لحم ودم، ولهم نزعاتهم ورغباتهم وأهواؤهم وشهواتهم، وليس كملائكة معصومين تتنزل من السماء، منبتّة عن نزوات الارض وكدر الاهواء.
وعرض الكاتب لقضية الافكار في الغرب، ولفت انتباهه بحكم معايشته في الغرب خطورة الافكار، ويرى ان الافكار في المجتمعات الغربية ليست مجرد ترف فكري، وجدل مذهبي، وصراع كلامي لا ينبني عليه شيء كما في واقعنا، وانما تتحول الافكار هناك الى ثقافة وسلوك يعيشه الناس، ويتعاملون على اساسها في شتى مجالات حياتهم. ويرثى لحال مجتمعاتنا التى تشيع فيها الفوضى وتحكمها الصدفة، وليس للأفكار في حياتها قيمة كبيرة، وتسير الأشياء فيها كيفما اتفق “… ولكن الفهم الذي يسيطر على نظرتي له ان الغرب تسيطر عليه الافكار ويحيا بها وبتطبيقها، وانه عالم يقدس التفكير والمعرفة ويبني عليها ممارسته اليومية في اغلب الجوانب، اذا ما قيس بالعالم الضعيف او المتخلف الذي يكره الافكار فيذهب ضحيتها” (مذكرات قاري، ٣٨٨). ويتحسَر الكاتب على هذه الأموال الطائلة التي تنفق في مؤسسات تعليمة لا تخرج اجيالا متعلمة متسلحة بالأفكار التي تمكنها من بلورة مشاريع اصلاحية في مجتمعاتها، بل انها في أحايين كثيرة تفضي الى عكس المراد من إنشائها، وتساهم في الحفاظ على الجهل وبقائه: “فالعالم المتجمد او المتخلف وسائله في الحفاظ على جهله وموته، فهو ينفق المال ويبني الجامعات والمؤسسات التي تضمن له بقاء جهله، وسيطرة غفلته وبقاء هزيمته” ( مذكرات قاري، ن.ص).
ثم انتقل الكاتب الى موضوع ترجمة العلوم في السياق الحضاري الاسلامي، خاصة ترجمة كتب اليونان وعلومهم. ويرى ان الترجمة افادت العقل الاسلامي بما وفرت له من المقدمات العقلية المنطقية، ولكنها في الوقت نفسه اضرت بهذا العقل بتركيزها على المماحكات اللفظية والجدل الكلامي والمنطق الصوري، مما أفضى الى أزمة عقلية شديدة، وخلافات حادة، وانقسامات واسعة بين اهل العلم من المشتغلين في دراسة التراث الاسلامي، حتى وقعت الفلسفة نفسها ضحية هذا الصراع بين التيارات المتعارضة، وصار العقل نفسه محل تهمة عند جماعات من اهل النقل “وقد كانت النتيجة المتوقعة لتلك الازمة بين الفلسفة والتراث الاسلامي لوم العقل ولوم الفلسفة ولوم الترجمة”
وأشار المؤلف الى ان اهل الحديث كانوا يقودون الحملة ضد ترجمة علوم الأوائل، ولكنه يرى انهم كانوا السبب وراء الشعور بالحاجة الى علوم عقلية  لتمحيص الروايات، ونقد القصص الكثيرة التي راجت حينذاك، وكان ذلك قبل ان يترسخ عند المحدثين منهج نقد النصوص ” من الذين حملوا رايات المعارضة للترجمة اهل الحديث، بسبب ما جاءت به الفلسفة اليونانية من المشكلات التي هزت العقل الاسلامية هزا، وسببت للمسلمين الكثير من الفوايد والمشكلات، فانها وان ساعدت بمقدماتها المنطقية على يقظة العقل وبعث الجدل وترتيب الحجاج، الّا انها أوقعت اجيالا من خيرة العقول المسلمة في حيص بيص”. ثم يعرض كيف كان اهل الحديث سببا في انتشار الفلسفة والمنطق من حيث لا يدرون، اذ كان الناس قد ساءهم انتشار الروايات والقصص بلا زمام ولا خطام ولا منهج عقلي في التمحيص “… وأهل الحديث الصالحون الصادقون محسوبون على جمع الرواة وفي جيش النقلة، وقد رأى العقلاء انفسهم في حصار، فليست معرفتهم بالأثر كافية؛ لرد غائلة عدوهم من العابثين بالرواية من الصالحين الغافلين القصاصين والكذبة والحزبيين، ولم تترسخ بعد مدارس العلة في نقد النصوص، مما طوره اهل الحديث لاحقا، فبدأ هولاء يتلمسون وسيلة لرد غير المعقول، وبحثوا عن العقل في الكلام، ومرّ زمن طويل حتى اكتشفوا  بسلاح المتطق اليوناني فصرخوا: وجدنا الحل!” وينتهي المؤلف في هذا الموضوع الى اهمية الترجمة وضرورة معرفة نتاج العقول الاخرى للاستعانة بها في توسيع المدارك، ولكنه في الوقت نفسه يحذر من التقليد الأعمى في هذا الباب.
نكتفى بهذا القدر من عرض هذا الكتاب الشيق الممتع، وانا اعلم ان ما عرضته هنا من جميع فضول هذا الكتاب، ليس الا قدرا ضئيلا من خضم هذا البحر الزاخر، وما قصدنا الاستيعاب، ومن ذا الذي يقدر على استيعاب نهر متدفق! وأقصى ما املناه هو الاقتراب من هذا المنبع، والاعتراف منه لكى يتذوق الآخرون من هذه الغرفة؛ حتى اذا طعموا منه وتذوقوه يكون ذلك مغريا لهم على طلب الاستزادة، وورود المنبع لإرواء عطشهم ونقع صداهم بايديهم. وبعد، فانّ هذه تحربة لقاريء نهم، احب القراءة، وشغف بالكتب، وصاحبها مصاحبة رفيق مخلص ودود، ثم اختار ان يشارك غيره من محبي القراءة والأجيال اللاحقة بعده تجربته تلك الثرية؛ عسى ان يجدوا فيها ما يحفزهم المثابرة على القراءة، والمصابرة على مصاحبة الكتب، وما يقتضىه ذلك من تحمل المشاق، وتجشم المعاناة، فعلى قدر نفاسة المطلوب يكون المجهود، ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل، ولكن البذل هنا ليس في الأموال فحسب كما في خطبة الحسناء، ولكنه البذل في الانفس والأجسام والأذهان والعيون.
وحينما تقرا هذا الكتاب تدرك ان المؤلف لم يكن قاريا سلبيا، وانما  كان قاريا واعيا يقظا متأملاً، يتفاعل مع ما يقروه، ويسبر في أغوار المتون، ناقدا ومعلقا وشارحا ومستنبطا للفوائد، ويوظف في ذلك كله ثقافة واسعة متنوعة، واقفا على الإشكالات الفكرية، مقلبا وجهات النظر فيها، ويناقشها، ثم يقول فيها رأيه بتواضع ودون جزم او حسم. وفوق كل ذلك وبعده، لقد نثر الكاتب نصائح غالية، تفيد القرّاء وتختصر لهم الطريق، وعرض لنماذج من العمالقة، وجهودهم المضنية في تحصيل العلم، فلا تنتظر -يا صديقي – نبوغا في علم او ان تعلق من العلم بشيي ذي بال دون ان تسهر الليالي، وتكون متعة القراءة احب الى نفسك من متع الدنيا كلها، واستنشاق روائح الكتب أشهى اليك من استنشاق النسيم في الرياض الزاهرة.

عبد الواحد عبد الله شافعي

كاتب صومالي من مواليد بلدوين ومقيم في بريطانيا. حصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بقضايا الفكر الاسلامي السياسي
زر الذهاب إلى الأعلى