خواطر دعوية (١٤ ) : من خدعنا بالله انخدعنا له

من محاسن الشريعة أن التعامل مع الناس يكون على ما يظهرونه من أقوال وما يقومون به من أفعال وحركات وما يعلنونه من مواقف وما يسطرونه من كتابات وما يحدثونه من تصرفات ، سواء كانت حسنة أو سيئة، صالحة أو سقيمة، صحيحة أو فاسدة ، حقا أو باطلا ، ولا سبيل للناس الوصول إلى قلوبهم أو التنقيب في ما وراء خلجاتهم ، فإن أمر السرائر موكولة إلى الباري جل في علاه ، فإن أظهروا خيرا قبل منهم ولو كان في باطنهم شر ، وإن أعلنوا شرا أنكر عليهم وإن ادعوا صلاح باطنهم ، وقد روي عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إن أُناسًا كانوا يؤخَذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع ! وإنما نأخذُكم الآنَ بما ظهَر لنا من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيرًا ؛ أمِنَّاه وقرَّبناه ، وليس إلينا من سريرته شيء ، الله يحاسبه في سريرته ، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنْه ،

ولم نصدقه، وإن قال : إن سريرته حسنة ) رواه البخاري ، وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم  ” إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم ” متفق عليه .
والمراد من تسويد  هذه الكلمات هو بيان أن بعض الناس سواء كانوا علماء أو دعاة أو وجهاء أو تجارا أو مسؤولين أو كانوا من عامة الناس يحاولون استغلال الدين وتوظيفه من أجل مصالحهم الشخصية أو الفئوية ضاربين عرض الحائط قدسية الدين وشعائره المعظمة  ، والمصيبة تعظم عندما يصورون للناس بأن ما يدعون إليه أو يقومون به موجه فقط إلى صالح العام وتكثير الخير وتقليل الشر ، ولكن في النهاية يتبين للقاصي والداني بأن الأمر لم يكن أكثر من مسرحية هزيلة الإخراج يمكن تسميتها ” خداع الناس باسم الدين”.

ومن الأمثلة الدالة على التظاهر بالتدين الكاذب من أجل مصالح شخصية  ما رواه أبو نعيم في حلية الأولياء عن نافع  قال :” كان ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قرّبه لربه ،  وكان رقيقه قد عرفوا منه ذلك ، فربما شمّر  أحدهم فيلزم المسجد ، فإذا رآه ابن عمر على هذه الحالة الحسنة ، أعتقه ،  فيقول له أصحابه يا أبا عبد الرحمن والله ما بهم إلا أن يخدعونك ،  فقال من خدعنا بالله انخدعنا له ” إسناده حسن .

كثير من الناس لا يشعرون أي حرج في وضع ثقتهم الكاملة في كل من يتحدث عن معاني وأخلاقيات الإسلام السامية من فضل الأخوة الدينية وأهميتها وأنها فوق كل الاعتبارات الدنيوية ، وأن الولاء الحقيقي لا يستحق إلا أهل الإيمان مهما كانت أصولهم وألوانهم ، وأنه لا يتحقق للمسلمين عز ولا شرف إلا إذا تعاونوا وتكاتفوا فيما بينهم ، وأن الاجتماع والتآلف من أسباب النصر ، وأن التفرق والتنازع يوهن الصف ويعجل الفشل ، وأن المجتمع الذي لا يحترم بعضه بعضا لا تقوم له قائمة  ، ويجب أن تسود الرحمة والعطف والحنان فيما بينه ، كما ينبغي أن يكون المجتمع كله في صف واحد في محاربة  العنصرية والحزبية والمناطقية ، وأن لا يسمح بوجودها بين المسلمين وغير ذلك من مساوي الأخلاق والأعمال ، وإذا أراد المسلمون الشرف والعلياء يجب عليهم  إعمال مبدأ التقوى وأن يكون المعيار والميزان الحقيقي للتفاضل بين الناس ، ويجب تقدير  وتوقير أهل العلم والديانة من أي جهة كانوا ، وأن ميدان الدعوة ونشر العلم والخير ينبغي أن يكون مفتوحا ومرحبا به كل على قدر عطاءه ومعرفته ، وغير ذلك من الكلمات والجمل الجميلة الراقية الآخذة للقلوب والوجدان ، وتجعل النفوس تطرب لها فرحا وابتهاجا ، ولكن غالبية هذه الكلمات الجميلة تصاب بالعجز  وتختفي عن الأنظار عندما تنزل عن منابر التنظير إلى مواطن العمل والتطبيق ، ولا يبقى لها أثر يذكر في واقع الحياة إلا ما نذر .

فكثير من الناس عندما يكتشفون أن من وضعوا ثقتهم فيهم على أساس إيماني وديني وكان أملهم أن هذه المبادئ الإسلامية العظيمة التي يدعون إليها  ستغير مجري حياتهم ، وتنتشلهم من مرابط المآسي والمشاكل ، وتقودهم إلى مرافئ العز والشرف لم تكن أكثر من حلم جال صاحبه في حديقة غناء فائقة الجمال  ، ولما استيقظ وجد نفسه في صحراء قاحلة لا ماء فيه ولا أنس .

وعندما تحصل مثل هذه الحوادث المؤلمة فإن الناس يصّوبون سهام التشكيك في تدين هؤلاء وعلاقتهم بالمبادئ التي ينادونها ، ويعتبرون أن هذا النوع من التصرف لا يعدوا كونه تدينا مغشوشا لا حقيقة له بل للتمويه والتمثيل فقط ، وأنهم خُدعوا باسم الدين ، ولولا حبهم لدينهم لما استدرجوا في وقوع هذه الحبائل الماكرة .

قلت خداع الناس باسم الدين أمر يتكرر في كل زمان ومكان ، لأنه لا يخلوا في كل عصر ومصر من أناس يحبون الخير وأهل العلم والفضل ، ولا يدخرون شيئا إذا ما طلب منهم الانفاق في طرق الخير أو المؤازرة والوقوف  إلى جانب الحق وأهله ، ولكن يندس ويتسرب إلى صفوفهم من لهم مآرب أخرى ، ليوظفوا هذا الحب الجارف للإسلام  لمصالحهم الخاصة ، وهؤلاء وإن كانوا قلة إلا أنهم يسيئون إلى دينهم وأخلاقهم ، ويكونون سببا لكره الناس لأهل العلم والدعوة ، لأنهم يدعون  الناس إلى طريقة  الجنة بأقوالهم ، بينما تكون أفعالهم حجر عثرة في طريق الخير ، ولذا قال الإمام ابن القيم  في هذا الصنف من الناس: ” علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون الناس إليها بأقوالهم ، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم ، فكلما قالت أقوالهم للناس : هلمّوا ، قالت أفعالهم : لا تسمعوا منهم ، فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له ، فهم في الصورة أدلاء ، وفي الحقيقة قطاع طرق ” كتاب الفوائد .

خداع الناس باسم الدين في أي مجال من مجالات الحياة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية فهي جريمة كبري في حق الدين والدنيا والمجتمع جميعا ، وضرره أكبر وأعظم من أي جريمة دنيوية أخري ، لأنه يسيئ إلى سمعة العلم والعلماء والدعوة بل يسيئ إلى رسالة الإسلام قاطبة ويصدّ الناس عن سبيل الحق والإيمان ، ولذا يجب على العلماء والدعاة وطلبة والعلم والحكام التعاون في الوقوف ضدّ هذه التصرفات المسيئة لرسالة الإسلام العادلة .  

د.عبدالباسط شيخ إبراهيم 

 

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى