عباقرة الخير وعباقرة الشر

وصف شخص ما بكونه عبقريا صار بضاعة لها رواجها في سوق الكتاب، وتأليفات الأدباء، وصيارفة اليراع، وكَتبة التاريخ، ولكن يا ترى مَن هو العبقري حقيقة؟ وما هي مواصفاته التي أهَّلته هذا الوصف وميزته عن سائر الناس؟ وما هي مجالاتها؟ ومن أول من استخدم؟ أهي إرث عن الوالدين أم مرتجلة مكتسبة؟ أم بهما جميعا؟

في هذه السطور سأحاول أن أجيب عن هذه التساؤلات، موجزةً، ملخصةً بإذن الله تعالى:

وعند العودة إلى كتب المعاجم، والمفردات، والقواميس اللغوية: نجد أنها متفقة على أنَّ العبقريَّ: هو شخص: فائق الذَّكاء، ونادرة زمانه، والمشتهر بقدرته الفائقة على الإبداع والابتكار. ولقد يسمى بالنابغة.

وَقَالَ الْخَلِيلُ:” كُلُّ جَلِيلٍ، نَافِسٍ، فَاضِلٍ، وَفَاخِرٍ: مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَغَيْرِهِمْ ـ عِنْدَ الْعَرَبِ ـ عَبْقَرِيٌّ.”

انظر كيف اشترط أن يكون العبقري جليلا فاضلا.

وجدنا أن الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى هو وأول من استعمل هذا الوصف حيث قال:

بَخِيلٍ عَلَيْهَا جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ** جَدِيرُونَ يَوْمًا أَنْ يَنَالُوا فَيَسْتَعْلُوا

فوصف الفرسان بأنها كجنة فائقة الغرابة والشجاعة، كما نقول نحن ـ الصوماليين ـ إذا تعجبنا بقدرة شيء: “هو جِني بن جني”

ثم استعمل القرآن الكريم في وصف زرابي الجنة وبسطها بأنها “عَبَاقِرَ حِسَانٍ “؛ لأنها فائقة الوشي، جليلة القدر.

ووصف النبي ﷺ عمر بن الخطاب بأنه عبقري لقوله ﷺ:”فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ”؛ وذلك لقوة فطنته، وحدّة ذكائه، وصفاته الحميدة، وتفوقه بإدارة الدولة، وأداء الأمانة.

ثم انتشر مدح الرجال، والأماكن، والأشياء بهذا الوصف قال الشاعر

ذُو الرُّمَّةِ:
حَتَّى كَأَنَّ رِيَاضَ الْقُفِّ أَلْبَسَهَا ** مِنْ وَشْيِ عَبْقَر تَجْلِيلٌ وَتَنْجِيدُ

ولكن من الصعوبة أن نحدد من هو العبقري؛ ولذلك أن هذا الوصف يخضع لاختلاف الأذواق، والميول، والاعتقاد، والرأي الشخصي، وربما شخص ما، أو كاتب ما يضفي العبقرية على بعض الناس وهم بعيدون عنها كل البعد؛ لحاجة في نفس يعقوب، وربما يَحرُم عنها الآخرين وهم جديرون بها.

والوصف بالعبقرية من حيث هو وصف صحيح لا غبار عليه، ولكنَّ السؤال من يستحقه؟ وما هو المعيار والميزان الحقيقي لوسم شخص ما بأنه عبقري فعلا لا ادعاء، وليس هناك تعريف جامع مانع للعبقرية لدى الباحثين، ولا يمكن تمييز العبقري من السفيه وغير العبقري، إلا بميزان الشرع؛ لأن خالق البشر هو الذي يعلمهم؛ وإلا وصف شخص ما بأنه عبقري بدون الضوابط الشرعية دونه خرط قتاد، وطريق مسدود عصي.

ولذلك صار وصف الناس بأنهم عباقرة أمرا مطروقا مبتذلا، لا زمام له، ولا معيار، فكل شخص يصف مَن ينبهر لإنتاجه بأنه عبقري ماهر، ولو أنتج ما يعتبره الجانب الآخر بأنه عمل سفهي لا يستحق أن يوصف بالعبقرية وما يدانيها.

صنف المؤرخ الصومالي القدير الدكتور ” محمد حسين” كتاب عباقرة القرن الإفريقي” وذكر ثلة من العلماء وصفهم بالعبقرية، وأغلبهم لا يوجد لهم كتاب واحد مطبوع مرموق، ولا يُعرف من ناحية اكتسابهم العبقرية والتميز، ولم يعرِّف المؤلف العبقرية، ولم يذكر الأوصاف والإنجازات التي اعتمدها كمعيار للعبقرية؛ لأنه من الصعوبة حسم هذا الأمر.

 وكثير من الغربيين عندما يوصفون شخصا ما بأنه عبقري فعندهم ميزانهم الخاص المبني على خلفية فكرية، وعلى موروث عقدي وحضاري؛ ولذلك لا تجد في مؤلفاتهم بدءً مِن “تشارلز جالتون” في كتابه “العبقرية المتوارثة” إلى “أندرو روبنسون” ذكرا لاسم واحد من العباقرة الحقيقيين الذين مروا على وجه الأرض وأثروا فيها آثارا شاهدة على عبقرياتهم، ومنهم أنبياء، وصالحون، وقادة، وإداريون، وخلفاء وغيرهم؛ والسبب واضح لأنهم لا ينتمون إلى مدرستهم الفكرية، ولا يخضعون لمعيارهم الحاجر لوصف شخص ما بأنه عبقري، ومن لا ينتمي إلى مدرستهم الفكرية لا حظ له بالعبقرية المطلقة.

 والحقيقة أن العبقرية المطلقة لا تعرف زمانا، ولا مكانا، ولا جنسا، ولا لونا، بل تخترق حجب الأزمنة، والأمكنة، والأمم، والأعراق، وإن حاول الخرافي ” فرنسيس غولتون البريطاني” أن ينشر هلوسته بأن العبقرية: ما هي إلا صفات متوارثة، وأنها محصورة في أسر أصيلة عريقة، وأنها ليست مكتسبة، فسوَّد في كتابه ” العبقرية المتوارثة” هذه الخرافة التي لا تصمد أما الواقع. والصحيح أن العبقرية المطلقة هي قدرات عقلية، وعقدية، أو إبداعية يمنّ الله على من يشاء من عباده، سواء كانت هذه القدرات فطرية، أو مكتسبة، أو كلاهما معا.

والجهات التي تأتي منها العبقرية متنوعة، وكثيرة، وتشمل العقيدة، والفقه أو القانون، والفنون بأنواعها مختلفة، والمادة بجميع تخصصاتها، والعلوم العسكرية، والسياسة، والإدارة، والقيادة، وغيرها..

وليس بالشرط أن يكون الإنسان عبقريا في جميع المجالات؛ ولكن الله يفتح لبعض عباده أبوابا من التميز والعبقرية، بينما يسدّ عنهم أبوبا آخرين، وهذا مجرب لا يحتاج إثباته إلى أدلة كثيرة، “.

وهذا يبطل نظرية أصحاب الماديات الذين وضعوا معيارا ومقياسا ماديا للعبقرية؛ كرقم 140 فما فوقه، كما فعل ” لويس تيرمن الأمريكي”.

وليس الأمر كما ذكر؛ لأن عبقرية المرء ليست مرهونة لمقياس مادي؛ لكنّها تتأثر بالأفكار والعقائد الدافعة لها كثيرا، ونبوغ الإنسان وعبقرياته تتأثر بالبيئة، والتراث، والفرص، والخبرة تطورا وتأخرا، تعليا وتسفلا، انقداحا واخباتا.

وقد لا يعرف العبقري بأنه عبقري، ولا يكتشف نبوغه وتميزه؛ لأنه لم يجد متفجرات طاقاته؛ وإن كنت القدرة مبرمجة في داخله، محفورة في كيانه، فبعض البيئة تقتل النبوغ، وتحارب العباقرة، وتَكبَتُ النبغاء، وتنتج البلاهَة والتبعية، وتختفي العبقرية في هذه المجتمعات حتى يظن بعض الناس أنهم أقل الناس نباهة وعبقرية.

 بينما أوساط أخرى تنمي الطاقات العقلية والبدنية؛ حتى يصل الإنسان إلى مرحلة العبقرية والنبوغ، مما يؤهله أن يخترع ما لم يخترعه الآخرون، ويرى ما لم يره غيره، وينظم أفكاره بطريقة غير تقليدية؛ ولذلك العبقرية تفجر، ولا تُولد فقط.

ومما تجدر الإشارة إليه أن العبقرية ليست كلها إيجابية، بل منها عبقرية خير وعبقرية شر؛ فيفتح الله لكل أحد إلى الوجهة التي اتجه إليها باختياره؛ فهناك أناس بذلوا تفكيرهم وحماستهم وقدرتهم للوصول إلى مرضات الله ونفع البشر في إطار المباحات فهؤلاء عبقرياتهم مطلقة غير مقيدة، فإذا ذكر هذا الوصف انصرف إليهم، أي عباقرة الخير.

وفي الضفة الأخرى عباقرة شر وهم الذين استخدموا لعبقرياتهم ما يؤذي أنفسهم، ويؤذي البشرية، من نشر الإلحاد، وترويع الآمنين فهم عباقرة الشر، فماركس عبقري شر، وهتلر عبقري شر، وستالين عبقري شر.. وقوم عاد لا شك أنهم كانوا عباقرة وعمالقة التي لم يخلق مثلها في البلاد؛ ولكنّهم أتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة.

الدكتور: يوسف أحمد محمد.

السويد 2021-03-02م.

الدكتور يوسف أحمد

الشيح يوسف أحمد ... طالب في دراسة الدكتوارة. تخرجت كلية الدراسات الاسلامية بمقدشو عام 1989. إمام وخطيب بمسجد في السويد.
زر الذهاب إلى الأعلى